حالة فريدة لجيبوتي كدولة، حيث تعتاش على القواعد العسكرية الأجنبية وتأجيرها لمن يرغب وفي الوقت نفسه تؤمن حماية لها! وفي ذلك تزاوج بين مصلحتين، تحمي بيتها ونظامها من الداخل وتوفر مكاناً آمناً لحماية مصالح تلك الدول. مع أن طبول الحرب الداخلية تقرع في إثيوبيا، لكن عيني ذهبت إلى جارتها في الشرق وهي جيبوتي، فهذه "الدولة العضو في الجامعة العربية" تعتبر أهم المنافذ البحرية على العالم من خلال مينائها العظيم، إضافة إلى أنها تشترك معها بالحدود، لكن هناك تداخل بالقوميات المشتركة لا سيما "قومية عفر" و"القومية الصومالية" فنسبة لا بأس بها من سكان جيبوتي ينتمون إلى تلك العرقيات. إذا اندلعت المواجهات العسكرية بين "إقليم تيغراي" والدولة المركزية في الحبشة فستفتح شهية أقاليم أخرى، علاقاتها متوترة مع رئيس الحكومة آبي أحمد (من قبيلة لاورومو المسيطرة على السلطة) على الانفصال وستتأثر الدول المحيطة بإثيوبيا حتماً بما يجري هناك، خصوصا موضوع النازحين الذين سيفرون من لهيب المعارك إذا حصلت! قد يكون السودان أكثر الدول عرضة للتأثر بالأحداث الإثيوبية نظراً لوقوعه مباشرة على حدود طويلة معها. عودة للموضوع، لماذا التوقف عند محطة جيبوتي وهي "دولة الميناء والقواعد العسكرية" التي لا يضاهيها بذلك أي دولة عربية أو حتى إفريقية؟ وإن كان تاريخياً ميناء جيبوتي الذي تم إنشاؤه عام 1888 هو ميناء إثيوبيا الرئيس، وعلى الرغم من أن سكان جيبوتي يتوزعون بين سبع عرقيات منهم 42% من "قبيلة العفر" وهي المجموعات نفسها الموجودة في ولاية تيغراي والتي تشهد الأحداث العسكرية! البعض قد يسأل، هل صحيح أن جيبوتي عضو بالجامعة العربية، فلا نسمع لها صوتاً ولا حساً، وكأنها غير موجودة إلا بالاسم وعلى خريطة الأعضاء لدول الجامعة! فهناك ما يعرف في الأدبيات السياسية بالثلاثي المنسي في الجامعة العربية وهي (الصومال انضمت عام 1974) وجيبوتي (انضمت عام 1977) وجزر القمر (انضمت عام 1993). وهذا المثلث بقي على الهامش، أي من الدول العربية الهامشية، وقد سعت جيبوتي بعد استقلالها عن فرنسا للدخول إلى "النادي العربي" طمعاً بالقروض والمساعدات أولاً ولتقوية موقفها السياسي كنظام حاكم ثانيا، وباستثناء الحرب الأهلية التي دامت ثلاث سنوات بين قبيلتي العفر وعساس (1991– 1994) عاشت جيبوتي في حالة من الاستقرار السياسي، وهو بيت القصيد من هذا المقال. لم نسمع يوماً أن هناك اعتراضا من الشارع العربي أو الأنظمة على سياسة فتح الأبواب للقواعد العسكرية الأجنبية على أراضي دولة عضو بالجامعة العربية، في حين أن الصراخ السياسي على أشده تجاه أي دولة خليجية لديها قاعدة عسكرية غربية، بل هي مصدر انقسام كبير يبنى عليه توجهات هذه الدولة أو تلك بأنها في الحضن الأميركي أو الإنكليزي أو الفرنسي. بلد ليس فيه موارد طبيعية وثروات لكنه يتميز بخصائص جيوستراتيجية استغلها باستدراج الدول العظمى صاحبة المصالح في المنطقة لإقامة قواعد عسكرية لها على أراضيها، تتحكم بمضيق باب المندب وهو من أهم الممرات البحرية والاستراتيجية على صعيد التجارة بخليج عدن وبحر العرب، تعبر هذا المضيق 30 ألف سفينة بالسنة. يشبهونها بمدينة "طنجة" المغربية أيام الثلاثينيات لكونها تجمع أكبر عدد من القواعد العسكرية في العالم تقريباً، حيث يتعايش على أرضها دول لها مصالح متضاربة، فما الذي يجمع مثلاً بين الصيني والأميركي أو بين الياباني والصيني، وهم على بعد أمتار من بعضهم؟ بلد حاضن لعشرات القواعد العسكرية الأجنبية استفاد منها بالدرجة الأولى كضمان وكحماية لأراضيه وسيادته، وإن كان هناك من يثير الأسئلة حول تشويه هذه السيادة باعتبار أن من يملك مفاتيح تلك القواعد هي الدول صاحبة المصلحة، وقد استطاعت جيبوتي أن تثير التنافس بين "المستأجرين" الأجانب واستقطاب الدول الطامحة إلى الاستئثار بمراكز النفوذ. والواقع أن سياسة تأجير الأراضي للقواعد العسكرية الأجنبية يجلب لها منفعتين رئيستين: الأولى مصدر دخل سنوي فالأرقام تتراوح بين 50 و60 مليون دولار سنوياً لكل قاعدة! والثانية، يمنحها مورداً مالياً آخر من خلال التجارة والترانزيت ونقل البضائع عبر مينائها العملاق. بلد القواعد العسكرية تجاوز 12 قاعدة تحتاج إلى شرطي مرور لتنظيم حركة السير بينها ووضع الفواصل الإسمنتية التي تفصل الواحدة عن الأخرى، فأميركا لديها قواعد يوجد فيها أكثر من 4 آلاف جندي جنوب المطار، أنشأتها عام 2011 إلى جانب مقر "قاعدة أفريكوم" تدفع 63 مليون دولار سنوياً. فرنسا لديها 3 قواعد عسكرية فيها وهي الأقدم، من بينها قاعدة بحرية ومطاران ارتبطت معها بمعاهدة دفاع مشترك تلتزم بحماية أمنها القومي، يوجد فيها نحو 900 عسكري، تدفع سنوياً 53 مليون دولار، والصين أنشأت أول قاعدة لها خارج بلادها، في جيبوتي عام 2017 ولديها 10 آلاف عسكري تدفع 20 مليون دولار سنوياً، قامت ببناء خط سكة حديد يربط أديس أبابا بميناء جيبوتي، حولته بكين إلى منفذ لتفريغ بضائعها المصدرة إلى إثيوبيا. اليابان، لديها قاعدة عسكرية دشنتها عام 2009 وفيها 600 عسكري منحت جيبوتي مبلغ 30 مليون دولار عقد أجار سنوي وقدمت لها مساعدات إنمائية بقيمة 30 مليار دولار إضافية، هذا بخلاف إسبانيا وألمانيا وإيطاليا والتي توجد في القواعد الفرنسية ضمن قوة المهام المشتركة الأوروبية لصد الإرهاب وعمليات القرصنة في البحر الأحمر. حالة فريدة لجيبوتي كدولة تعتاش على القواعد العسكرية الأجنبية وتأجيرها لمن يرغب وفي الوقت نفسه تؤمن حماية لها! وفي ذلك تزاوج بين مصلحتين، تحمي بيتها ونظامها من الداخل وتوفر مكاناً آمناً لحماية مصالح تلك الدول ويا قلبي لا تحزن!
مشاركة :