أستاذي الفنان المبدع الكبير المنصف السويسي (أبو عصام).. قبل أن أكتب أو أخط أو أتهجى شهادتي في حق تجربتك المسرحية الفنية الثقافية الإدارية الإبداعية الثـّـرة، ينبغي أولاً أن أقر بأنك الشاهد حتى اللحظة الأخيرة قبل رحيلك، على عصر قوامه حراك مسرحي عربي عايشت وعاينت أنت شخصيا فيه مده الذهبي وجزره المروع ورجراجه المضطرب والمقلق.. عصر اتسعت أنت فيه فضاءً تجهر في فسحه يفاعتك الخلْقية ومخيلتك (الخيلية) الجامحة، تجهر بقدرتك على التمسرح إلى يوم يكون فيه المسرح آخر ما تبقى من حريتنا الأخيرة وتظاهرتنا الأثيرة.. منك أستاذي نهلنا كل ما يدغدغ ويحفز مخيلتنا على البحث عن جديد مغاير في علوم المسرح ونحن على مقاعد الدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية بدولة الكويت عام 78م، ولشد ما استوقفني وأبهرني مصطلح السينوغرافيا الذي نقضتَ أو قوضتَ به دون أن تعلم أو نعلم نحن حينها، مصطلح الديكور، ذلك المعمار الهندسي و(المسنفر) الذي صمم ونفذ من أجل أن يكون خادما مطيعا للممثل في العرض المسرحي، لتجعلنا في قلب اللعبة المسرحية وضمن (رهط) المشاركين في قراءتها مختصي تمثيل وإخراج وديكور ونقد ومتلقين أيضا، ولتضعنا في أتون الحوار وجدل واشتباكات الأسئلة الساخنة والإشكالية، حيث المسرح جدل مع كل كائنات الروح والعقل والفعل في متسع الوجود الكوني.. ذهبت بنا أيها المعلم المشاكس لبنات أفكارنا الساكنة الحائرة المتوثبة أحيانا، إلى تجارب الخلق الإبداعي في العالم من منطلق التمسرح والتجسد فيها، لا من منطلق التنظير أو التطبيق النظري الآلي لها كما عكف على ذلك بعض من علمونا من أساتذة المسرح حينها.. إنك تشعل زيت الإبداع لحظة الاقتراب من جمرة الفعل الساكنة، لتدفعنا إلى أن نهمس بتفكير مرتفع «إنها النار قادمة نحو الساكن في ذاكرتنا ومخيلتنا، فتأهبوا.. كونوا شررا أو احترقتم».. جئت أيها المعلم إلينا لتقض صمت جدران الفصول السميكة الصارمة التي تفصل بين أهل الفعل وأهل النقد في ذلك المعهد.. جئت لتهيئنا لخلاف حاد ومشاكس وشرس أحيانًا مع مفردات وعناصر المسرح الحديث والحداثي، محطمين من خلال هذا الخلاف تلك الجدران، ومندغمين عبره في بيئة الفعل المسرحي المتوهج.. أنت أستاذ البحث في المسرح الذي حفز العيون لأن ترى وتحدق في ما وراء النظر بوصفه فعلا لا ينبغي تجاوزه لحظة البحث، لذا من الضرورة أن يصبح الكلام عن المسرح وفيه (مفعلن) ومتحرك، وأن يصبح الضوء زمنا جماليا ودلاليا بوصفه شخصية وحدث في العرض المسرحي.. جئت لتهِب الجسد في المسرح طاقة مختلفة عن الذي اعتدناه في إطاره المقولب والمعلب، فكان معك الجسد يشع بإمكاناته الفيضية ليصبح في المسرح معمارًا ورؤية وأفقًا.. وكم كان الحلم جميلاً وآسرًا وخلاقًا حين هيأت بإدارتك الحاذقة لمهرجان قرطاج المسرحي لسنوات، هيأت الثراء الذهبي للمسرح في سنوات عدة من ثمانينيات القرن الماضي، حيث يكون فيه المسرح بؤرة وملتقى الكون لكل المسرحيين والمفكرين والمثقفين من مختلف أقطار العالم، وحين تكون أنت فيه حامل شعلة بروميثيوس التي أضاءت ليل المسرح من أقصاه إلى أقصاه دون أن يخفت وهجها أو يشحب تأثيرها الفاعل والمضيء.. كنت بقرطاج وكانت قرطاج بك، نبراس وثيرمومتر التطور للإبداع المسرحي في الوطن العربي، ومن بعدك قرطاج يا معلمي حزينة كما هو المسرح في وطننا العربي، وحتى وإن آلت دفة المهرجان إلى غيرك، كنت أيضا مبدعا ومضيئا في حزنك وفي فدحك على خشبة المسرح حسب جنونك الخلاق في مسرحيتك (اللي يتقال واللي ما يتقالش)، والتي لم تختزل فيها همك المسرحي فحسب، وإنما عرّيت واختزلت ولخصت من خلالها حال المسرحيين العرب اليوم.. أنظر إليك اليوم أستاذي ومعلمي رحمة الله عليك، تناضل وتجاهد بأقصى ما ملكت أيمان الإبداع لديك من أجل إعادة سحر المسرح إلى بيئته التي شكلتها أحلامك وأحلامنا معا، تختبر وجودك المسرحي بمخيلة لا تعوزها يفاعة ولا يعجزها مضمار ولا تحبطها سنون العمر الجليلة، تحاور في المسرح وتطرح وتقترح الجديد فيه، متحديا يفاعة الخلق والتفكير لدى الشباب ولدى من يصغرك سنا وتجربة، تدير دفة الحوار في المسرح وكما لو أنك تدير دفة السفينة نحو جهات الإبحار في عوالم المسرح، تشغلك أحزان كثيرة نرصدها أحيانا بين ضحكتك الطفلية المتحشرجة، ولكنك في نهاية المطاف تنتصر للمسرح وتدين بحرقة كل من مزق أوراق وثائقه وأخفى حقيقة غيابها عن المشهد المسرحي في تونس.. في المسرح جربت واختبرت يا معلمي كل ألوان وصنوف الفنون والأنواع فيه، وكنت مبدعًا فيها دون استثناء، وكنت الساخر في أكثر المسرحيات دراماتيكية، بل كنت أول من يسخر منها قبل أن يتلقفك رأي نقدي من هنا أو هناك، فما أرحبك.. هل روحك يا معلمي جُبِلت أو قُدّت من تنويعات لا يدركها إلا من (تنعم) بخيط شفيف من ثروة خيالك؟. أنت الكائن المحب بلا حدود مهما فرط بك العبث حدًا لا يحتمل أحيانا، ونحن يا معلمنا أبناء حبك في المسرح وجنونك في الخلق والإبداع.. نتمنى أن نكون جديرين بك..
مشاركة :