كثيرًا ما يتردد أن الأسواق ليست على وفاق مع حالات عدم الاستقرار واليقين التي ترافقها موجات من التخوف والتوجس، فبالرجوع الى الأزمات السابقة التي خلّفت حالات من عدم اليقين على امتداد عقد من الزمن على الأقل، نجد أن المتعاملين يقومون برصد دقيق لمديري الثروات اليوم أكثر من أي وقت مضى.تفرض جائحة فيروس كورونا على القطاع عددًا من التحديات الخاصة التي تتجاوز نطاق التقلبات والتغيرات التي يشهدها السوق، والمتجسدّة في سُبل المحافظة على الأمن السيبراني وخصوصية المتعاملين في إطار العمل عن بعد، وطرق وأساليب زيادة حجم محافظ الشركات من دون الحاجة الى عقد اجتماعات تعريفية يتم حضورها شخصيًا، وكيفية ضمان استمرارية الأعمال بشكل عام.ويُشار إلى أن هذه التحديات برزت حتى قبل بلوغ الموعد المقرّر لانعقاد الانتخابات الأمريكية المقبلة وتصاعد التوترات التجارية الدائمة والمستمرة بين أكبر اقتصادين في العالم، وهي عوامل تضافرت جميعها لتسهم في الارتفاع المتزايد في وتيرة التقلبات والتغيرات الطارئة على الأسواق التي نشهدها الآن والتي دفعت «مؤشر التقلب» أو كما يُطلق عليه البعض «مؤشر الخوف» (VIX) إلى الارتفاع لبلوغ أعلى وتيرة صعود يومية في عشرة أسابيع بحلول بداية سبتمبر. ولكن قد يتجسّد التحدّي الأبرز والأهم من بين جميع هذه التحديات في الحفاظ على ثقة المتعاملين وسط موجة عارمة من حالة عدم اليقين، ما دفع بمديري الثروات في جميع أنحاء العالم إلى صقل مهاراتهم الاستشارية أثناء عمليات الإغلاق، وذلك على خلفية سيطرة حالة متزايدة من التوجّس والقلق على التوجه العالمي امتدّت لتطال عالم الاستثمار، حيث تجاوزت مخاوف الناس حدود الجانب الصحي لتتمحور حول رفاهيتهم المالية، ولا سيما في ظل ما نشهده من تغيرات مفاجئة على افتراضاتنا القديمة نتيجة للتقلبات الطارئة على الأسواق وفئات الأصول. ويُلفت إلى أن مثل هذه المخاوف والتوجسات تتضح جليّة في دول الخليج التي كانت في مواجهة فعلية لتداعيات انهيار قطاعي الطاقة والعقارات قبل إغلاق المطارات ومراكز التسوق والمدارس على خلفية تفشي الوباء.وقد أسهمت عمليات الإغلاق في تغيير وجه العلاقة بين المتعاملين ومديري الثروات في بعض الجوانب، حيث تدخلت الاجتماعات الافتراضية لفتح آفاق جديدة للتفاعل بين المستشارين ومتعامليهم، فقد تكشّف لكلٍ منهما جزءًا أكبر من عوالم الآخر. وقد ساعدت التجارب الحياتية المشتركة في أوضاع الإغلاق، والتي تجاوزت حدود المكان أحيانًا، الناس على التواصل بطريقة مختلفة.ويُذكر أن المستثمرون يسعون الآن أكثر من أي وقت مضى على مرّ العقد الماضي إلى الحصول على تطمينات من مستشاريهم المكلفين بتقديم المشورة بشأن إدارة ثرواتهم، وهو ما يُقدم فرصة متميزة قد لا تتكرر لأفضل المستشارين لإثبات جدارتهم، فيما يُشكّل ذلك في الوقت نفسه تحديًا يهدد استمرارية القطاع بأكمله. وقد أثبت قطاع إدارة الثروات في الماضي تمتعه بالمرونة والقدرة على تحمل الضغوطات ومواجهة التحديات والتكيف معها بشكل ملحوظ ما مكنه من الصمود في وجه أعتى الصدمات والأزمات الناشئة عن العالمين المادي والمالي، حيث أظهرت دراسة أجرتها «مجموعة بوسطن الاستشارية» أن الثروات المالية الشخصية على مستوى العالم تضاعفت بمقدار ثلاث مرات تقريبًا على مدى العقدين الماضيين، إذ حققت ارتفاعًا من 80 تريليون دولار في عام 1999 إلى 226 تريليون دولار في نهاية عام 2019 في ظل مواجهة عدد من الأحداث: أزمة الإنترنت المعروفة بـ «انفجار فقاعة الدوت-كوم»، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر (11 سبتمبر)، وأزمة تفشي وباء «سارس»، وأسوأ أزمة مالية شهدها العالم منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى. بالمحصلة، ينبغي لمثل هذا العرض التاريخي لتطوّر إدارة الثروات أن يخفف من ثقل سحابة اليأس التي تُخيّم على عالم الاستثمار بسبب تفشي هذا الوباء وأن يمنح بصيص أمل يولده التفاؤل الإيجابي القائم على المعلومات والمعطيات المتوافرة.سعيًا منهم للحفاظ على ثرواتهم في ظل هذه الموجة من التقلبات والتغيرات، يحرص المتعاملون المتخوفون على التفاعل مع مستشاريهم بوتيرة أعلى، الأمر الذي يفرض على المديرين ضرورة التصرف باستباقية وتوفير هذه المعلومات والاستجابة لما قد يكون رصدًا أكثر دقة وصرامة لأهداف تخطيط الثروات. ويُذكر أن التمويل السلوكي يلعب دورًا كبيرًا في شكل القرارات التي يتخذها المتعاملون وأي تأثيرات على مشاعرهم، ومثال على ذلك حالة الخوف التي تسيطر على المتعاملين نتيجة أزمة « كوفيد-19» الأخيرة التي أصبحت تُشكّل تحديًا يقف في وجه أدائهم المالي.ويتجسّد الحل الرئيسي لتجاوز هذه المخاوف والتوجسات خلال الأشهر المقبلة في إطلاع المتعاملين وتعريفهم بطرق وأساليب إعادة التوازن لاستثماراتهم على المدى القصير للسير على خطى تحقيق الأهداف الاستثمارية البعيدة المدى.تسهم أزمة فيروس كورونا في التسريع من وتيرة التوجه نحو التحوّل الرقمي الذي كان قد اكتسب ثقلًا وأهمية على مستوى القطاع قبل ظهور الوباء، ولا سيما أن الأجيال الثلاثة: الجيل «إكس» (X) «ما قبل جيل الألفية»، وجيل «الألفية»، والجيل «زد» (Z) «ما بعد جيل الألفية»، أصبحت تُشكّل جزءًا مهمًا من قاعدة المتعاملين. لذا قد يصبح التفاعل الافتراضي الآن هو النمط السائد ويتعزز انتشاره وتبنّيه بوتيرة أسرع بكثير مما كان يتوقعه أي منا قبل ستة أشهر.ونظرًا إلى أن الفترة المقبلة ستكون صعبة وثقيلة على الجميع، لا بد من توعية المتعاملين بضرورة التصدي لموجة القلق السائدة في الفترة الحالية وتجنب السماح لها بأن تمتد إلى خططهم المالية. لذا، ينبغي لنا حمل راية «الحفاظ على الهدوء والاستمرار في العمل» وهي النصيحة التي حملتها الملصقات الجدارية المتداولة في فترات نشوب الحروب. { الرئيس العالمي لشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا لدى «إندوسويس» لإدارة الثروات
مشاركة :