أثر الجائحة على مكان الموسيقى» عنوان الورقة البحثية التي قدمها الموسيقار البحريني الدكتور عصام الجودر، ضمن مشاركته في «مؤتمر الموسيقى العربية» التاسع والعشرين الذي عُقد في مصر، على مدى خمسة أيام؛ من الثاني وحتى الخامس من (نوفمبر)، والذي احتضنته «دار الأوبرا المصرية»، إذ جاء بالتزامن مع انعقاد «مهرجان الموسيقى العربي»، ليتناول المؤتمر «مستقبل الموسيقى العربية.. ما بعد الأزمة».وخصّص الجودر حديثه في ورقته حول مكان الموسيقى، وهو الفضاء الذي تعقد فيه الفعاليات الموسيقية بشتى صورها، مبديًا تخوفه من التبعات السلبية التي أحدثتها الجائحة على هذا الفضاء، خاصة أن العديد من الفعاليات انتقلت من الفضاء الحي، إلى الافتراضي، ما قد يولد الاعتياد عليه تبعات سلبية على الواقع الموسيقي كما يعتقد الجورد، مؤكدًا أن هذا الفضاء «سواء كان دار أوبرا، أو قاعة عرض، أو مسرح، أو أي فضاء يجتمع فيه المؤدي؛ عازفًا أو مغنيًا بالمتلقي، كالبيوت الثقافية، والمكتبات، والمصحات، ودور المسنين، وغيرها من الأمكنة... تشكل أهمية مباشرة على الموسيقى، فهي من حيث الحجم تحدد طبيعة البرنامج الذي ستؤديه الفرقة، فالفروق المتعلقة بحجم المكان، تنعكس على التنوع اللوني للأصوات الموسيقية وكذلك طبيعة البرنامج الموسيقي أو الغنائي الذي تقدمه الفرق المختلفة».ولفت الجودر إلى أن للمكان أهميته البارزة، فهو كما يوضح «يلعب دور في طريقة التأليف الموسيقي، فالكاتدرائيات القديمة على النمط القوطي لها أثر على الامتداد الصوتي أكثر بروزًا من قاعات الموسيقى التقليدية، كذلك لصالونات قصور النبلاء والأمراء في أوروبا، طابع مختلف، أنتج موسيقى الحجرة، ما يؤكد أن المكان يفرض شروطه» التي يراها الجودر فيزيائية وسيكولوجية وإبداعية وجمالية، «فبالنسبة للبُعد الفيزيائي، يلعب تلقي الصوت مباشرة دون أي وسائط إلكترونية، تأثيرًا مباشرًا ومختلفًا من الناحية النفسية عن ذلك الذي يلعبه في حال تم تلقي الصوت عبر وسائط، إذ في الحالة الأولى يولد الأداء شعورًا بالانتماء، والخصوصية، وهي أمور تكاد تفقد في ظل الجائحة التي أضحت تفرض على المتلقي أن يستمع للموسيقى عبر الفضاء الافتراضي، وهو في عزلته».وأشار الجودر إلى أن زعزعة عرش المكان في الموسيقى، لا يعود للواقع الافتراضي الحديث، بل يمتد في تاريخه إلى الأزمنة التي «قام فيها (توماس أديسون) و(ألكسندر غراهام بل) بابتكار التسجيل الصوتي، وإمكانية نقله من مكان إلى آخر، أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، إذ أثرت تجارب هاتين الشخصيتين، في زعزعة مركزية المكان في الموسيقى»، بيد أن المرحلة الحالية، كما يذهب الجودر، «تكشف لنا أن المفاهيم التي سادت في زمن ما قبل القرن العشرين قد توارت واندثرت، فمفهوم التذوق، والتلقي، المبني على الاحتكاك المباشر بالمبدع، قد فقد جاذبيته، وقلت أهميته، بسبب طغيان البدائل الافتراضية»، ومع ذلك يؤكد الجودر أهمية المكان الموسيقي، «فهو الهوية، والذاكرى، والحاجة الروحية... إذ لا يزال ينتج عن العرض الحي تفاعلاً بين المؤدي والمتلقي»، وما يخشاه الجودر، في ظل الجائحة، «هو اختفاء هذا التفاعل المتبقي، عندما يستبدل المكان الحي بالافتراضي».ويختم الجودر بتبيان أبعاد المكان الموسيقي، وارتباطاته النفسية والعاطفية، إذ إن أهميته كما يخلص «نابعة من أبعاده المرتبطة بالدفء، والحميمية، والألفة، والعلاقة، والتفاعلية، والارتباط، والذكرى، والانتماء.. حيث لا معنى دون مكان، ولا جدوى من فصل المكان عن حضوره، وإحيائه، وتشكيله، ومعايشته، والشعور به... فـ(المكان بالمكين)، وليس بوسع المكان أن يأخذ هويته وطابعه، إلا بالحضور الفيزيائي للإنسان، وتفاعله مع فضاءاته، وهو عنصر جوهري في المكان الموسيقي».
مشاركة :