أسهمت المواقف العربية، وخصوصًا من جانب مصر والسعودية والإمارات في تأمين نوع من الهبوط الآمن للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن شجرة التصعيد ضد “التطرف والإرهاب، والإسلام السياسي، والإسلام”، ما أوقع ماكرون في التباسات إشكالية ألغت التمييز بين الإسلام كدين، وبين حركات الإسلام السياسي ونزوعها باتجاه إنشاء المجتمع الموازي في المجتمعات العربية، فما بالنا في المجتمعات الغربية. نزول ماكرون عن شجرة التصعيد، أطفأت محركات التحريض الغرائزي المتقابلة، والذي لم يستفد منه وبانتهازية معهودة إلا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي وكما حركات الإسلام يتعيّش على إدعاء الدفاع عن الإسلام، فيما المشكلة هي التطرف والإرهاب الذي برع الأردوغان في استخدامه في شمالي سوريا وغربي ليبيا كما وفي إقليم ناغورني كاراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، حيث جعل الأردوغان من أعضاء هذه الجماعات وباعترافاتهم الفيديوية مجرد مرتزقة، أو بندقية للإيجار. وتوازي المواقف العربية المصحّحة لخطاب ماكرون في أهميتها، ذات المواقف وخصوصًا تلك التي أعلن فيها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مدينتي سرت والجفرة الليبيتين خطًا أحمر للأمن القومي العربي والمصري. إنه الخط الأحمر الذي أوقف غزوة الأردوغان الليبية عند حدها، والذي سمح أيضا بانطلاق مسارات الحوار العسكرية والسياسية والدستورية، وآخرها ملتقى الحوار السياسي الليبي المنعقد في تونس، والذي توصل لما يشبه خارطة طريق يَنتج بموجبها مجلس رئاسي وحكومة جديدان تتوزع تشكيلتهما بالتساوي بين ممثلي الأقاليم الثلاث طرابلس، برقة وفزان، ويكون ملتقى الحوار السياسي بمثابة البرلمان المؤقت لحين إجراء الانتخابات الرئاسية والعامة. النقاط الجوهرية الأساسية الحاسمة في نجاح المسارات التفاوضية، تكمن في جدية إلغاء الاتفاقات التي أبرمت خلال مرحلة الحرب والانقسام في ليبيا. وهي الاتفاقات الأمنية والعسكرية والبحرية بين تركيا وحكومة الوفاق، وأيضا في دمج عناصر الميليشيات غير المؤدلجة وفق معايير وضوابط محددة من الجيش الليبي، بالإضافة ـ وهذا الأهم ـ إلى طرد المرتزقة والقوات الأجنبية عن ليبيا، أي مرتزقة الأردوغان من السوريين وغيرهم، إضافة للقوات التركية. إنها النقاط التي أثارت حفيظة الأردوغان وغضبه، ما دفعه في هذا التوقيت المفصلي للتحضير لزيارة ليبيا من بوابة مدينة مصراتة بحجة ظاهرها تفقد القوات التركية، فيما باطنها محاولته الالتفاف على نتائج مخرجات ملتقى الحوار السياسي، وأيضا اللجنة العسكرية المشتركة المنعقدة في مدينة سرت والتي كانت حاسمة في تثبيت وقف إطلاق النار، كما وفي طرد المرتزقة والقوات الأجنبية إياها، ما يعني انتصارا للجهود الأوروبية والدولية التي شكلت مبادرة القاهرة العمود الفقري لتقدمها خطوات ملموسة. الحوار السياسي الذي حلّ محل التصعيد الكلامي، سمح للرئيس الفرنسي ماكرون خلال الانتخابات الأميركية التي لم تضع أحمالها بعد، باستئناف دوره في المنطقة خلال الوقت المستقطع والممدّد، فأعاد تشغيل محركاته الدبلوماسية لمحاولة ضخ بعض الأوكسجين في مبادرته اللبنانية بعدما لفظت أنفاسها. ويبدو أن مهمة موفده الى بيروت، لم تتمكن من إحداث الخرق المطلوب في جدار تعطيل تشكيل حكومة مهمة لبنانية. وقد ضاعف من صعوبة تشكلها العقوبات غير المسبوقة (التي تردّد أن هناك اتجاها أميركيا لفرضها على مدير الأمن العالم اللبناني اللواء عباس إبراهيم)، التي فرضتها الادارة الاميركية على حليف حزب الله القوي جبران باسيل بجريمة الفساد، والتي قد لا تكون العقوبة الأخيرة أو الوحيدة على باسيل بحسب السفيرة الأميركية دوروثي شيا التي قالت إن الولايات المتحدة لم تبتعد عن لبنان بعد كما فعلت بعض دول الخليج. ما يعني أن الابعتاد الأميركي عن لبنان هو خيار وشيك فيما لو لم تبعتد الحكومة اللبنانية الجديدة عن حزب الله. وهنا يبرز التمايز الواضح بين المبادرة الفرنسية التي تمر عبر أقنية حزب الله، وبين الاستراتيجية الأميركية القاضية بتشكيل حكومة بعيدًا عن حزب الله. وبخلاف الدول العربية التي نجحت في تأمين هبوط الرئيس الفرنسي عن شجرة التصعيد، فإن موفد ماكرون السفير باتريك دورويل لم يستطع بالمقابل إقناع فرقاء التعطيل في لبنان على العمل البنّاء بمعزل عن العقوبات التي استهدفتهم والمسلطة وغيرها عليهم. جلّ ما أنتجه دورويل في زيارته الاستطلاعية فتح مكالمة هاتفية بين باسيل وسعد الحريري، أراد باسيل عبرها وبشكل كاريكاتوري القول للموفد الفرنسي إن المشكلة مع الحريري سياسية وليست شخصية. وفيما أبلغ الرئيس ميشال عون الموفد الماكروني أن تعطيل تشكيل حكومة الاصلاحات سببه العقوبات الأميركية، بدا جبران باسيل مصطنعا لعب أدوار البطولة الوهمية في مواجهة “الإمبريالية الأميركية” بسبب خياراته السياسية منعا للفتنة في لبنان، علما أنه سبق لوليد جنبلاط وسليمان فرنجية وغيرهما أن وصفوا باسيل منذ ما قبل أحداث قبرشمون في جبل لبنان وغيرها بالفتنة المتنقلة. في المقابل تلقف زعيم حزب الله العقوبات الأميركية على باسيل بكونها هدية ثمينة وغير متوقعة، لأنّها حولت جبران باسيل بما يمثل الى رهينة سياسية لخيارات نصرالله ما بعد اللبنانية، سيما وأن من شأن هذه العقوبات الحدّ من عزلة حزب الله خارج بيئة ثنائي الترسيم، عبر تكبير حزب المعاقبين أميركيا وأوروبيا وعربيا بتهم الفساد والإرهاب، وبالتالي تكبير مروحة انتشاره المناطقية والطوائفية. تزامنا وتوازيا مع جولة الموفد الفرنسي، وفي سياق منفصل عنها وربما متصل بالمواقف الماكرونية السالفة والمرصودة أردوغانيا، اعتدى مجهولون على مسجد السلطان “إبراهيم بن أدهم” في مدينة جبيل، وضربوا إمام المسجد وشتموه، كما وسخروا من الأذان وتلاوة القرآن، في سابقة رغم خطورتها المجتمعية فقد سُجّل تأخر استنكارها وشجبها من القوى السياسية ونواب المدينة وفاعلياتها. وما ضاعف من خطورة الاعتداء على مسجد جبيل قيام مجهولين بقرصنة موقع “بلدية جبيل” الالكتروني بعد إصدارها بيانًا استنكاريًا، وقد أوقف الجيش اللبناني أحد المتورطين في الحادث الذي كانت له تداعيات فورية في طرابلس تمثل بمسارعة بعض الشبان إلى إغلاق “ساحة النور” بالنيران المشتعلة في مدينة الفيحاء التي سبق لها أن استقبلت منذ أيام البطريرك الماروني بشارة الراعي وبحفاوة بالغة. يأتي ذلك أيضا تزامنا مع الإعلان الأميركي المفاجىء عن اغتيال الرجل الثاني في تنظيم القاعدة “أبو محمد المصري”، في العاصمة الإيرانية طهران، ما يعزّز الأخبار المتداولة عن العلاقات التخادمية القديمة والمستمرة بين الحرس الثوري وتنظيم القاعدة، كما ويدحض شماعة حروب إيران وأذرعها ضد “التكفيريين والإرهابيين”. لكن التزامن الخطير والأبرز كان في إعلان الكيان الإسرائيلي عن فريق قانوني يسعى لاتخاذ إجراءات عقابية ضد شركات الطيران وشركات التأمين التي تطير أو تقدم خدمات طيران إلى مطار رفيق الحريري في بيروت الذي تحوّل الى “عشّ دبابير لحزب الله”، واعتباره “أن الطيران إليه يرتقي إلى جريمة حرب بسبب تقديم المساعدة لحزب الله”، ويراكم الإعلان الإسرائيلي الخطير مزاعم نتنياهو المتكررة حول مخازن صواريخ لحزب الله قرب مطار بيروت. وبعيدا عن محاولات الأردوغان تقويض الجهود الدولية للحل السياسي في ليبيا أو تجويفها بغرض تطويعها بما يخدم غزواته التوسعية، فإن ثبات وقف إطلاق النار بين الجيش الليبي وقوات الوفاق المدعومة من تركيا ومرتزقتها من شأنه تبريد الساحة الليبية. لتنتقل التسخين الى المنطقة حيث يبدو لبنان في عين الأعصار الحربي بعد الاقتصادي والكوروني الذي أغلق لبنان بعدما أطبق على صحة اللبنانيين. إنه التسخين المتصاعد على إيقاع مفاوضات الترسيم وسيف العقوبات المسلطة، والتي كثّف دلالاتها تشكيل الرئيس الأميركي دونالد ترمب، نوعا من مجلس الحرب في قيادة البنتاغون. حيث ذهبت الكثير من التحليلات المحلية والغربية خلافا لإعلان وزير الدفاع الأميركي الجديد التحضير للانسحاب من أفغانستان والشرق الأوسط، الى وصف تغييرات البنتاغون بالانقلاب الذي يشي ويمهد لاندلاع حرب كبيرة. إنها الحرب الهادفة لكسر توازنات المنطقة. وهي الحرب التي سبق وتوقعها منذ أيام رئيس مصلحة تشخيص النظام في إيران الجنرال محسن رضائي بتغريدة مقتضبة قال فيها “الضربة المتبادلة سوف تحدث عن قريب لقد اقتربنا من ساعة الصفر”، وهي الحرب التي لم يخف حسن نصرالله في إطلالته الأخيرة وقوعها، بل أعلن جاهزية محور الممانعة لمواجهتها. وهي الحرب التي إن حدثت فعلا، ستقول بأن جعبة ترامب مدجّجة بترسانة ضخمة من الإجراءات التي ستفرض على جو بايدن إذا ما دخل البيت الأبيض بأن يرث من سلفه ترامب عدة إجراءات. العقوبات، بعضها لا كلها.
مشاركة :