إنه في كل أحواله يسعى لتطوير الخطاب الثقافي وأدواته عن طريق الانفتاح على التجارب المعاصرة، وإن كان خطه الفكري يستند على مرجعية معرفية ثابتة ومحافظة سواء في قراءته للنص أو الواقع، وإن كان خطابه الثقافي يتنوع بتنوع الأفكار والمعالجات وطريقة توظيفه للأفكار والتي بسطها بشكل كامل في كتبه "دروب مختلفة" و"قاع الفنجان" و"وجدتها".. درجت منذ سنوات بعيدة على القيام بزيارات ثقافية بين آونة وأخرى لمختلف الشخصيات الثقافية التي أثرت حياة الثقافة بإضافاتها ونتاجها الثقافي. وهي عادة ألفتها منذ زمن بعيد وشكلت لدي نوعاً من التآلف الثقافي، والتي أراها من جانبي أحد عوامل صنع البيئة الثقافية ووسيلة من وسائل نقل التجارب الثقافية. وكان من بين الشخصيات الثقافية التي اعتدت على زيارتها د. خالد بن سليمان الراجحي، وهو بالمناسبة أكاديمي ومفكر وكاتب يضيف بعداً التزامياً وفنياً لكتابته، اعتاد في كل عام أن ينشر كتاباً أو كتابين في مختلف صنوف الثقافة. وقد أهداني كتابه الجديد "وجدتها.. محاولات في استخدام العقل والمنطق للوصول إلى حقيقة الأشياء" والذي يعالج من خلال نصوصه وموضوعاته مجموعة من القضايا المعاصرة بصورة مبسطة وإنسانية، واضعاً لكل موضوع رؤيته الخاصة من منطلق قراءة تحليلية تستنطق الهاجس الفكري التربوي المشبع بروح الفلسفة، وموظفاً تجربته التأملية في بناء تصوره للقضايا بروح عقلانية. فالناظر في كتابات د. خالد الراجحي، يجد أنها تجمع ما بين البعد المعرفي التثقيفي والطرح العقلاني المحايد، ينطلق فيما يكتب من وعي بالحقائق، وقدرة على توظيفها بالمقاييس الموضوعية الدقيقة والتي تتيح له القدرة على تحليل الظواهر وتفسيرها، ولذلك فعندما يختار الفكرة يتجه إلى المعالجة، فعندما نقف على أحد موضوعات الكتاب كالصراع بين التوقعات والواقع، نجده يتناوله تناولاً فلسفياً وقد ضرب مثلاً على فكرته بنيلسون مندلا وأضيف إليها غاندي، فعندما ننظر إلى فكرة الصراع ما بين التوقعات والواقع، فالتوقعات أن مندلا أو غاندي غير واقعيين في إمكاناتهما وتطلعاتهما في نظر الآخرين، ولكن في الواقع أنهما كانا دقيقين في تحليلهما لمواقفهما. فأحياناً ما تكون إمكانات وقدرات الفرد أكثر مما يتراءى للآخرين، فالناجح عادة ما يكون غير منطقي وواقعي بمقاييس الآخرين في تطلعاته وإمكاناته، ولكنه بمقاييسه الخاصة دقيق في قراءاته وتحليلاته لواقعه. وإذا ما قرأناه في موضوع "فرز الأصدقاء" نراه يقدم تحليلاً نفسياً لحالة الانسحاب الممنهج في العلاقات الاجتماعية، والذي قد تتحول فيه العلاقة من أولية إلى ثانوية أو من أساسية إلى هامشية. وإن كنت أنظر مع د. خالد الراجحي من نفس الزاوية التي ينظر منها، فقد يحدث الارتجاع في العلاقات الشخصية أو "فرز الأصدقاء" بسبب الضغوط النفسية الناتجة من جراء توسع وتنوع وتداخل العلاقات الشخصية وتشعبها وتشابكها، والتي في الغالب تأتي من خارج معايير العلاقات الثابتة والمنسجمة والتي وصفها سيغموند بالعلاقة المليئة بالود واللطف والروح المتعاطفة المرحة. وإن كان هنالك من يتبنى ما يعرف بآلية تخفيف الضغوط في العلاقات عن طريق برمجة العلاقات في إطار التحاشي المقصود، وهنا يأتي "فرز الأصدقاء" أو الارتجاع الانتقائي في العلاقات الشخصية فاعلاً وإيجابياً، وقد يكتفي البعض بدرجة محدودة في العلاقات وبالذات في العلاقات التي تقتضيها المصالح الشخصية. فإذا ما قرأنا مثلاً "فلسفة الحياة" أو "وقوف الزمن" أو "خيال" نراه ينفتح بوعي على التجارب المعاصرة، ويضفي عليها طابعه الخاص ويضع الأفكار بموازاة القيم. ولذلك نجده في معظم تأملاته وقراءاته يقتفي المنهجية العقلانية الرصينة سواء أكان الموضوع المدروس في الشرق أو الغرب، وسواء أكان داخل السياق العربي أو السياقات الأخرى محاولاً فتح مسارات في الوعي. فارتباطه بالحقل الأكاديمي وعلاقته بالثقافة المعاصرة والفكر الإنساني أتاحت له تلك الفضاءات التأمل والقراءة والتحليل، وأثمرت بتلك المصنفات والدراسات التي ينتجها بين حين وآخر. ولذلك لا يمكن الفصل بين كتاباته ومؤلفاته وحقله الأكاديمي والاقتصادي، فإذا كان شق طريقاً في الكتابة فإنه في الوقت نفسه شق طريقاً آخر في حقل الدراسات. وهو في كل أحواله يسعى لتطوير الخطاب الثقافي وأدواته عن طريق الانفتاح على التجارب المعاصرة، وإن كان خطه الفكري يستند على مرجعية معرفية ثابتة ومحافظة سواء في قراءته للنص أو الواقع، وإن كان خطابه الثقافي يتنوع بتنوع الأفكار والمعالجات وطريقة توظيفه للأفكار والتي بسطها بشكل كامل في كتبه "دروب مختلفة" و"قاع الفنجان" و"وجدتها". وإن كان د. خالد الراجحي يتكئ في بعض كتاباته على عكازة التفاؤل والنظر بمنهجية إيجابية والتي تظهر بصورة أكثر في نصوصه الروائية والتأملية في رواية "سر الجبل"، أو تأملاته في "جسر من ضوء" والتي يستعيد فيها بمنهج روائي وتأملي ذكريات كفاحه الأولى في حقل التعليم فهو عندما كتب "سر الجبل" و"غلاسكو" كان ينظر من داخل تلك المجتمعات الجامعية، وقد نظر إلى كل جامعة بغير المنظار للأخرى، ولعل إقامته الطويلة بين جدران تلك الجامعات مكنته من رؤية الأشياء بمنظار مختلف، وإن كان الكتابان يجمعان بين الرواية الواقعية والخيالية، فالكاتب بشكل عام يميل إلى الحقائق وإن أدخل الخيال فهو الخيال الذي لا يخرج عن نطاق تصوره.
مشاركة :