رأيت أن أصدّر هذا المقال بحقيقةٍ لأستبعد بها أية محاولةٍ لاستنتاج ما يدلّ على ادعاءٍ من قبلي بالتمكن من علم الشريعة أو إدراكٍ شامل بالقضايا الفقهية في الدين. فأنا هنا فقط أحاول بالمنطق أن أقدم الأفكار التي أطرحها، معتمداً على قراءة الثوابت المستقرٌة في الضمير الديني ومقارنتها بما طرأ حديثاً من التنظير بالفتاوى الدينية المستحدثة المشوّشة لذلك الضمير، نظراً لاعتبار تلك الثوابت من المسلمات الراسخة في الروح بالتربية والتفاعل بين كل من يؤمنون بها ويقومون بإداء واجب تمسكهم بدينهم على أساسها. من قراءتي لأفكار الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية الذي استبق به تطبيق نظريته ولاية الفقيه بعد اختطاف الثورة الإيرانية لصالح التيار الذي يمثله، استوقفتني رؤاه التي يضع نفسه مع قرنائه من الفقهاء في ذات المرتبة التي تضفي عليه العصمة والقدسية مع النبي والأئمة من أهل البيت الكرام. فهو يقول في ذلك الكتاب: واليوم - في عهد الغيبة - لا يوجد نص على شخص معين يدير شؤون الدولة، فما هو الرأي؟ هل نترك أحكام الإسلام معطلة؟ أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول إن الإسلام جاء ليحكم الناس قرنين من الزمان فحسب ليهملهم بعد ذلك؟ أو نقول إن الإسلام قد أهمل أمور تنظيم الدولة؟ ونحن نعلم أن عدم وجود الدولة يعني ضياع ثغور المسلمين وانتهاكها، ويعني تخاذلنا عن حقنا وعن أرضنا.....وبالرغم من عدم وجود نص على شخص من ينوب عن الإمام ع حال غيبته، إلا أن خصائص الحاكم الشرعي لا يزال يعتبر توفرها في أي شخص مؤهلا إياه ليحكم الناس....... وهذه الخصائص موجودة في معظم فقهائنا في هذا العصر، فإذا أجمعوا أمرهم كان في ميسورهم إيجاد وتكوين حكومة عادلة عالمية منقطعة النظير ثم يقول تحت عنوان ولاية الفقيه: وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فَقِيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي ص منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا ويطيعوا. لقد أسهب الخميني في كتابه المذكور إسهاباً تخطّى به الحدود التي وضعها الفقهاء الذين سبقوه زمنياً بمعاصرة أيام حدوث الغيبة أو القرب منها، حيث اقتصروا مسألة النيابة، التي صدرت بها فتاوى بعد غيبة الإمام الثاني عشر، لتيسير أداء بعض الواجبات الدينية. وبناءً على ذلك فأنه من الواضح في ما قرأت، بأن الكثيرمن فقهاء الشيعة لا يجيزون لأنفسهم ولا لغيرهم التصدي للأمور السياسية لعدم توفرالعصمة لأحدٍ من الناس مهما كان مقامه نظراً لحصرها في عدد محدود من الأئمة من أهل البيت فقط، إلا أن الخميني ألغى ذلك الحاجز الذي يصدّه عن السلطة فابتدع نظرية الولاية التي يكون بها نائباً عن الإمام الغائب في كل أمور الحياة، ليتسنى له تحقيق مشروعه التوسعي لقيادة العالم الإسلامي، ولذا من البديهي القول بأن تلك النيابة ستستمر بانتقالها من فَقِيه إلى آخر، في ظل النظام الحالي في إيران. فإذا كانت إيران تدّعي بأنّها نموذج الدولة الإسلامية العادلة، فهل المقصود بذلك أن مسيرة الإمام المهدي على الأرض قد بدأت بالفعل؟ وهل نحن أمام حالة يتقمص فيها الفقيه شخصية الإمام المعصوم بالنيابة عنه؟. في ص 80 من كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي يقول أحمد الكاتب: وكانت المشكلة الكبرى التي واجهت الفلاسفة الإمامية في بناء نظرية الإمامية الإلهية وتركيبها على أئمة أهل البيت، تكمن في موقف أهل البيت أنفسهم من نظرية العصمة حيث كانوا يرفضونها أشدّ الرفض، ويصرحون أمام الجماهير بأنهم أناس عاديون قد يخطئون وقد يصيبون وأنهم ليسوا معصومين من الذنوب ويطالبون الناس بنقدهم وإرشادهم واتخاذ موقف المعارضة منهم لو صدر منهم أي خطأ، أو أمروا بمنكر، لا سمح الله. فإذا كان هذا موقف أهل البيت فى القول بعصمتهم، إذا صحّ ما ذكره الكاتب، فهل يجوز أن تكون العصمة لمن يأتي بعدهم في هذا الزمان؟ إن مفهوم العصمة كما عرفت هو تلك الحصانة التي منحها الله لإنبيائه حفظاً لهم من الوقوع في المعاصي والأخطاء في التلقّي والتبليغ، ليكونوا قدوة نقيّة من الذنوب التي ينهى عباده عن ارتكابها، ومؤهلين لما كلّفهم به من الرسالات السماوية من خلال وحيه إليهم بالأمانة والصدق. فلا يجوز لمن سواهم أن يأخذ العصمة الإلهية مهما ارتقى في مقامه فوق البشر، إلا ذلك العدد المحدود من الأئمة حسب المفهوم المستنبط بالقياس والتأويل في المعتقد الشيعي القائمً على نظريتي الإمامة والعصمة.
مشاركة :