التأويل كمانع من التكفير.. كيف.. ولمن يكون الفصل فيه؟ - يوسف بن عبدالعزيز أباالخيل

  • 11/16/2013
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

كنت قد ختمت الجزء السالف من هذا المقال بالقول: "مع ذلك، فثمة إشكالية تمنع من الفصل في التأويل، ومن ثم قد تحول دون إقامة الحجة، مما يصعب معه، إن لم يمنع تكفير من نظنه أتى بأقوال أو أفعال كفرية"، وفي هذا الجزء سأتحدث عن إمكانية ومن ثم كيفية رفع التأويل وإزالة الشبه عمن أتى، أو باشر قولا أو فعلا كفريا. هكذا نتبين صعوبة، إن لم يكن استحالة تكفير المعين، خاصة إذا كان ممن غشي أقوالا أو أفعالا يسوغ فيها التأويل، ويجوز فيها، عقلا على الأقل، الاختلاف، حتى وإن كانت مما تحسبه طائفة أو مذهب ما على أنها من المقطوع به من الدين بالضرورة، الذي لا يعذر، كما يتصورون، أحد بجهله. ذلك أن المعلوم من الدين بالضرورة أمر نسبي، فما هو معلوم لزيد من الدين بالضرورة، قد يكون مجهولا كلية لعمرو لكني قبل ذلك، أود أن أشير إلى أن بعض من مردوا على التكفير قد يحتج بأن هذه النصوص إنما تنصرف إلى تكفير (المعين)، وأنهم لا يكفرون الأعيان، وإنما يكفرون المقولات، ولا إخالهم إلا أنهم أرادوا بلوغ باطل بقولٍ حق! ذلك أننا لو تأملنا طريقة تكفيرهم لمخالفيهم، لعلمنا أن تكفيرهم إنما ينصرف إلى(مُعيَّن) مقصود ومحدد سلفاً. فلقد دأبوا على انتهاج أسلوب يعتمد على قيام أحد مريديهم من الغلاة بانتزاع مقولات لمَنْ أرادوا تكفيره من سياقاتها التي لا يفهم معناها إلا باستحضارها، ثم صياغتها على هيئة سؤال ملغوم مضمونه: "ما قولكم حفظكم الله في ما قاله فلان بن فلان( يضعون الاسم الثلاثي أو حتى الرباعي للضحية!) في مقاله أو في كتابه كذا، (يضعون عنوان المقالة أو اسم الكتاب أو الرواية) من أن كذا وكذا، أفتونا مأجورين". وبعد أن يحشد الشيخ التكفيري أدلة معينة يؤوّلها إلى ما يتوافق وإرادة التكفير المقصودة سلفاً، يختم بقوله: "فهذا القول كفر، وقائله كافر مرتد عن الإسلام يجب على الحاكم أن يستتيبه فإن تاب ورجع وإلا قُتل مرتدا!"، ثم بعد أن تسير الركبان بفتواه التكفيرية التحريضية، يخرج هذا التكفيري، أو مريدوه على الناس ليزعموا أنهم لا يكفرون الأعيان، وإنما يكفرون المقولات!. لكننا نعود إلى صلب موضوع المقال لنقول: إذا كانت الحجة على المخالف شرطا ضروريا قبل اللجوء إلى تكفيره، فإن السؤال الملح هو: من له الحق في إقامة الحجة على هذا المخالف، من جهة، وكيف تقام عليه الحجة من جهة أخرى؟ - من له الحق في إقامة الحجة على المخالف؟ إن إجبار المتأول الذي اقترف ما يكفر به المسلم، على المثول أمام فقيه أو قاضٍ أو جهة ما، لإزالة شبهته وتصحيح تأويله، إنما هو نوع من العنف الذي هو من اختصاص الدولة، كحق سيادي لها، اتكاءً على أنها وحدها من تحتكر العنف، وهي، من ثم، القوة المخولة باستخدامه لأغراض الصالح العام المتمثلة أساسا بتقنين العنف ومنع استشرائه بين أفراد المجتمع. نجد ذلك واضحا في كتابات كبار علماء الاجتماع الذين دافعوا عن مشروعية الدولة في استخدام العنف بصفته حقاً حصرياً مميزاً لها، حيث لا يحق لأي فرد أو جماعة أو جهة أن تمارس العنف ضد أفراد المجتمع، أو تجبرهم على ممارسة شيء ما، أو المثول أمام جهة ما، إلا بتفويض منها. وفي ذلك المعنى يقول عالم الاجتماع الشهير: ماكس فيبر في كتابه (العالم والسياسي): "لو وُجِدتْ بنيات اجتماعية لا تعرف العنف لا ختفى مفهوم الدولة". هنا نتبين أنه، مثلما لا يحق لأيٍّ كان، فقيها أكان أم طالب علم، أم مؤسسة دينية، تكفير مسلم بحجة مقارفته لأقوال أو أفعال كفرية، ما لم تُقَم عليه الحجة، فإنه لا يحق لأي منها تبعا لذلك أن تصدر فتوى بتكفيره بحجة امتناعه عن المثول أمامه/أمامها لإقامة الحجة عليه، لأن إجباره على المثول أمامه/أمامها حق محصور بالدولة وحدها، أو بمن فوضته ذلك الحق. وبالتالي فلو امتنع المتأول عن المثول أمام من يريد مناقشة أقواله "الكفرية"، فإن هذا الامتناع لا يجوز اتخاذه حجة لتكفيره، وعلى" المتضرر!" أن يلجأ إلى الدولة لكي تجبر المتأول على المثول أمامه أو أمام غيره ممن تختارهم الدولة أو ممثلها لمناقشة أقواله. - كيف تقوم الحجة على المتأول؟ مع ذلك، هب أن هذا المتأول أحضِرَ بواسطة الدولة، أو بواسطة من فوضته على المثول أمام من سيقيم عليه الحجة، ويدفع عنه شبهة التأويل، فإن السؤال الذي لا بد أن يثور هو: كيف تقوم الحجة على المتأول؟ بمعنى: كيف يتيقن المخوَّل بإقامة الحجة عليه أن هذا المخالف قد بان له "الحق"، واندفعتْ عنه شبهة التأويل، بالقدر الذي لا يعذر بعد ذلك إن إصر على موقفه؟ يقول الأستاذ: رائد السمهوري في كتابه ( نقد الخطاب السلفي: ابن تيمية نموذجا، ص62)، :".. ما معنى بلوغ الحجة؟ هل بمجرد بيان الأمر للمخالف تكون الحجة قد قامت عليه؟. الواقع أنه ما دام هناك شبهات قوية ومعارضات عند المخالف، لا يمكن القول بأن الحجة قد قامت عليه. وليس انقطاع المخالف في المناظرة سبباً بأن الحجة قامت عليه، لأنه قد ينقطع صاحب الحق أحيانا بسبب انبهار أو شرود ذهن، أو مغالطة ذكية لم يستطع كشفها، أو غير ذلك من الأسباب. ولهذا فإن إقامة الحجة أمر لا يدركه إلا المخالف نفسه. هو نفسه يعلم ما إذا كانت الحجة قد قامت عليه أم لا. فإن أصر على الكفر بعد إذ علم في نفسه، وانكشف له وجه الحق، فحينئذ هو كافر. ولكن من ذا الذي يعلم ما في الصدور إلا الله، فليس الأمر سهلا". ويقول في الصفحة (63) من نفس الكتاب:".. ولكن تبقى مسألة: كيف نعلم أن الحجة قامت على المخالف؟ هل إبانة الحق للمخالف أو ما نرى أنه الحق كاف لنكون أقمنا الحجة عليه؟ ثم لماذا لا تكون الحجة قد قامتْ علينا نحن حين يطرح المخالف وجهة نظره ويسوق أدلته لنا؟ وإذاً فسيرى هو أننا نحن الذين قامت علينا الحجة لا هو! ثم إن الحجة لا تقوم على من قامت عنده شبهات قوية تقف موقف المعارض مما نراه نحن حججا، وما من سبيل لتكون الحجة قد قامت حقا على المخالف إلا بأن يعلم في قرارة نفسه أن ما نقوله هو الحق، فإن خالف ذلك انطبق عليه التكفير أو التفسيق، ولكن من أين لنا أن نعلم هذه المسألة المستكنة في قلوب العباد، والتي لا يعلم خباياها إلا الله تعالى؟ وإذن، فأنى، وكيف نستطيع، عمليا، نسبة المعين على الكفر؟ فإن دخوله في الإسلام كان بيقين، فلا يجوز إخراجه منه بالظن". هكذا نتبين صعوبة، إن لم يكن استحالة تكفير المعين، خاصة إذا كان ممن غشي أقوالا أو أفعالا يسوغ فيها التأويل، ويجوز فيها، عقلا على الأقل، الاختلاف، حتى وإن كانت مما تحسبه طائفة أو مذهب ما على أنها من المقطوع به من الدين بالضرورة، الذي لا يعذر، كما يتصورون، أحد بجهله. ذلك أن المعلوم من الدين بالضرورة أمر نسبي، فما هو معلوم لزيد من الدين بالضرورة، قد يكون مجهولا كلية لعمرو. ولقد أكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، إذ قال في مجموع الفتاوى( 23/196): "كون المسألة قطعية أو ظنية، هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مرادَه منه، وعند رجل آخر قد لا تكون ظنية، فضلا عن أن تكون قطعية، لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر الله له). فهذا الرجل شك في قدرة الله وفي المعاد، بل ظَنَّ أنه لا يعود، وأن الله لا يقدر عليه إذا فعل ذلك بنفسه، ومع ذلك فقد غفر الله له". وقال أيضاً في مجموع الفتاوى ( 13/ 65 ) "فكون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام، ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة. وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، لكن أكثر الناس لا يعلمه البتة". وذلك يعني في نظر شيخ الإسلام رحمه الله، أن ثمة معلوما من الدين بالضرورة، لكن علمه بالضرورة قد يكون لدى الخاصة فقط، أما العامة فقد لا يعلمونه بالكلية، ناهيك عن أن يعلموه بالضرورة". ولله الأمر من قبل ومن بعد.

مشاركة :