ارتفع في الآونة الأخيرة مستوى التوتر في المنطقة نتيجة تصريحات لمسؤولين إيرانيين وإسرائيليين وأميركيين، وتحرّكات عسكرية مريبة لجميع الأطراف، وتوتّرات أثارتها الأقاويل والتحليلات عن حرب مرتقبة يجري التحضير لها. لكن بحسب مجريات الأمور والمعطيات المتوافرة، فإن الحرب ممكنة فقط إذا ما أراد طرفا الصراع ذلك، أو إذا تعمّد أحد الطرفين تخطّي خط أحمر يعلم مسبقاً أن خصمه لن يستطيع السكوت عنه لحجم الإهانة التي سيلحقها بالدولة والشعب. وأحد الخطوط الحمر لإيران هو ضرب منشآتها النووية. أما بالنسبة الى لبنان، فهناك دولة وحكومة بالاسم، إذ إن صاحب قرار الحرب والسلم هو "حزب الله"، وهو وحده يستطيع جر لبنان الى حرب في المنطقة. لكن هل هناك حرب فعلاً وما إمكان حدوثها؟ يعيش العالم في الشهرين الأخيرين من عمر إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو الذي اعتمد سياسة متشددة جداً اتجاه إيران وحلفائها. القرارات الأخيرة لهذه الإدارة من ناحية زيادة وتيرة فرض العقوبات توحي بأن الاتجاه هو لدفع الأمور نحو تصعيد مرتفع الوتيرة تعقّد من مهمة إدارة الرئيس المنخب جو بايدن بإعادة إطلاق المفاوضات مع طهران للتوصل الى اتفاق جديد حول برنامجها النووي. الفارق بين ترامب وبايدن أن لكل منهما انطباعه الخاص نحو إيران وتفسيره المختلف لما تقوم به. ففيما يعتبر فريق بايدن أن سياسة إيران رفع تخصيب مستوى اليورانيوم وزيادة حجم المخزون من اليورانيوم المخصب هي خطوات لزيادة أوراق التفاوض في يدها، يراها ترامب وفريقه خطوة لإتمام الهدف وتصنيع سلاح نووي. طبعاً، إسرائيل تساعد على ترسيخ هذه القناعة الأخيرة لدى الساسة الأميركيين. الخبر الذي نقلته صحيفة "النيويورك تايمس" الأميركية عن مصادر في البيت الأبيض تحدث عن أن ترامب، بعد إبلاغه بمضاعفة إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب، طلب من جنرالاته إعطاءه تقييماً عن إمكان قصف المنشآت النووية الإيرانية. لكن الصحيفة أضافت أنه تم ثنيه عن هذه الخطوة من وزرائه وجنرالاته. فما كان منه إلا أن طرد وزير دفاعه وعدداً من كبار المسؤولين في الوزارة وعيّن مكانهم أشخاصاً معروفين بولائهم المطلق له وباستعدادهم لتنفيذ توجيهاته من دون أسئلة. ثم صرّح وزير الدفاع بالوكالة بنيّة أميركا سحب عدد كبير من جنودها من أفغانستان والعراق، برغم المعارضة الشديدة لذلك من جهات أميركية عدةومن ضمنها فريق بايدن. وآخر التطورات كان قيام سرب من القاذفات الاستراتيجية الأميركية طراز بي-52 برحلة الى أجواء الخليج العربي ضمن تمرين لمحاكاة هجوم جوي، مع الإشارة الى أنه في حينه لم تكن هناك أي مناورات أميركية معلن عنها في المنطقة. الأسئلة التي يجب طرحها هنا هي: لماذا يقوم البيت الأبيض بتسريب محتوى اجتماع أمني مهم جرى الحديث فيه عن هجوم على إيران الى صحيفة أميركية معروفة بصدقيتها دولياً؟ ولماذا لم نسمع رد فعل بالنفي أو الإيجاب أو حتى أي شيء عن هذا الموضوع من الحكومة الأميركية؟ الإعلام الأميركي المشغول بتتبع نتائج الانتخابات الأميركية ورفض ترامب الاعتراف بفوز خصمه، لم يغص في هذه الأسئلة ولم يعط تحليلات واضحة عن سبب صرف عدد من كبار مسؤولي البنتاغون؟ كما أن خبر رحلة قاذفات بي-52 الى المنطقة مر سريعاً من دون تعقيب في الإعلام الأميركي. فقط خبر سحب بعض الجنود الأميركيين من أفغانستان والعراق لاقى رد فعل في الإعلام. من الواضح أن واشنطن تشنّ حرب معلومات ضد إيران مترافقة مع هجمات سيبرانية والعقوبات، هدفها اللعب على أعصاب القيادة الإيرانية، وربما امتحان رد فعلها. فقد يكون سحب جنود أميركيين من العراق وأفغانستان هو لتقليل عدد المواقع التي يمكن أن تستهدفها إيران في حال مهاجمتها. وقد يكون خطوة من ترامب لتنفيذ وعده لناخبيه بإعادة جزء كبير من الجنود الأميركيين، وذلك للحفاظ على شعبيته وتحضيراً لإمكان خوضه الانتخابات الرئاسية بعد أربعة أعوام. وفي هذه الحالة يكون البنتاغون بإرساله قاذفات بي-52 للمنطقة قد بعث رسالة لإيران والقوى الإقليمية الأخرى بأن أميركا لا تزال قادرة على توجيه ضربات قوية انطلاقاً من أراضيها إذا ما دعت الحاجة. تترافق التطورات والتحركات على الساحة الأميركية مع غارات جوية مكثفة تشنها الطائرات الإسرائيلية على قواعد للحرس الثوري الإيراني وحلفائه في سوريا. وبرغم شدة الغارات، لم يكن هناك أي رد على إسرائيل. بل إن قائد فيلق القدس الجنرال قاآني، قام بجولة على قواته والميليشيات التابعة لإيران في كل من لبنان وسوريا والعراق ليشدد على ضرورة عدم الرد على إسرائيل أو مهاجمة أي مصالح أميركية في هذه المرحلة، عاكساً إدراك طهران خطورة فترة ما قبل خروج ترامب من السلطة. فلقد تلقى المسؤولون الإيرانيون التحذيرات من جهات أميركية وأوروبية منذ أيلول (سبتمبر) الماضي بتجنب استفزاز أميركا وإسرائيل خلال الفترة الممتدة حتى نهاية السنة، ويبدو أن إيران أخذت هذه التحذيرات بجدية وتنفذها. فهي تعلم جيداً عواقب الحرب مع أميركا ومدى الدمار الذي سيلحق بها، ما قد يهدد النظام نفسه. لكن لدى إيران خيارات أخرى للرد على أي هجوم إسرائيلي أو أميركي، وهو الرد عبر الميليشيات التابعة لها والمتمركزة على حدود إسرائيل الشمالية – لبنان وسوريا. والميليشيات العراقية التابعة لإيران قد تستهدف قواعد أميركية هناك وتمد الجبهتين السورية واللبنانية بالمقاتلين والسلاح، بخاصة عبر معبر البوكمال حيث تنتشر كبرى قواعد الحرس الثوري الإيراني، والتي تتعرض لغارات إسرائيلية متكررة في الآونة الأخيرة. بالعودة الى النيات المحتملة لأميركا وإسرائيل، فكل من ترامب والقادة الإسرائيليين شددوا على أنهم لن يسمحوا لإيران بأن تمتلك سلاحاً نووياً. وتحدثوا عن خشيتهم من إقدام إدارة بايدن على تقديم تنازلات تسمح لإيران بالاحتفاظ بقدرات ستمكنها ذات يوم من تصنيع أسلحة نووية. والطرفان توقفا عن التواصل مع إيران بطرق مباشرة أو غير مباشرة، ما يرفع من احتمال التصادم العسكري. ترامب الذي أعلن مراراً لناخبيه أنه لن يدخل حروباً في الشرق الأوسط وسيسحب قوات بلاده من هناك، يدرك أيضاً أن لدى إسرائيل خصوصية كبيرة لدى قاعدته الشعبية التي تعتبر حماية إسرائيل واجباً مقدساً. وعليه، فهو لن يتوانى عن مساندة إسرائيل عسكرياً إذا ما قررت الأخيرة شن هجوم لتدمير منشآت إيران النووية. هل تستطيع إسرائيل تدمير المنشآت النووية الإيرانية المحصنة جيداً والمنتشرة في أماكن عدة في البلاد؟ وهل لدى إسرائيل ما يكفي من القدرات العسكرية لاستهداف هذه المنشآت؟ من غير المؤكد أنها ستستطيع تدميرها بشكل ينهي البرنامج النووي الإيراني، كما فعلت ضد البرامج النووية في كل من العراق وسوريا. فهي بحاجة الى قدرات عسكرية بحجم دولة مثل أميركا للقيام بذلك. إذا ما أعطى ترامب الضوء الأخضر للقيادة الإسرائيلية، فهي على الأرجح ستقدم على ذلك مدركة أن إيران لن تستطيع أن تتجنّب الرد المباشر على إسرائيل، ما سيفتح المجال لترامب للتدخل عسكرياً. فالرئيس الأميركي يستطيع أن يأمر بعمليات عسكرية حتى آخر يوم له في البيت الأبيض. وهو ليس بحاجة لإرسال أي قوات برية، بل سيكتفي بقصف جوي استراتيجي وعمليات بحرية لتدمير منشآت حيوية وتقليص قدرات إيران العسكرية. وطبعاً أي مواجهة عسكرية ستعقّد الأمور على إدارة بايدن كثيراً، التي سيكون عليها التركيز على إيقافها قبل التفكير بمفاوضات معها. لكن هل تبادر إسرائيل الى حرب استباقية ضد إيران خلال جائحة كورونا؟ كيف يمكن إسرائيل أن ترسل مواطنيها الى الملاجئ أو جنودها الى الجبهات وسط جائحة وإجراءات تباعد اجتماعي؟ لن يكون الأمر ممكناً قبل توزيع اللقاح على سائر الشعب الإسرائيلي. وبناءً على كل هذه المعطيات، فإن إمكان الحرب وارد ومسبباتها متوافرة، لكن تنقصها الثقة بإمكان تحقيق أهدافها وعقبة تهديد فيروس كورونا. ستعيش منطقة الشرق الأوسط حالة ترقب شديد حتى انتقال السلطة في أميركا في 20 كانون الثاني (يناير) المقبل، وقد تشهد تطورات دراماتيكية. فمن مستعدّ لها؟
مشاركة :