ربط النُقادُ تطور السيرة الذاتية كجنس أدبي وتنامي الاهتمام بهذا الفن ورواجه لدى النخبة وعامة الناس بظهور مفهوم الفردانية وإدراك الفرد لقيمته ومنزلته في الوسط الاجتماعي، هنا تقدم الذات نفسها إلى الآخر وتخرج من وراء الستائر التي تحجب صورتها الحقيقية، وقد أتاح المجتمع الغربي حرية عرض التفاصيل المتعلقة بحياة الكُتاب والمشاهير، لذلك ما يَطَّلعُ عليه القارئ في سيرة الكُتاب الغربيين قد يكون صادما أو غير مألوف بالنسبة إلى ما استقر في مخيلته من الرؤى المثالية. إذ يقشر الكاتب نفسه من كل خصوصياته الحياتية ويفتش عن ماضي أسرته والبيئة التي قد احتضنته، من دون أن تكون ثمة مخاوف لدى الذات الكاتبة من تعكير الصورة في ذهنية المتلقي. هذا المنحى هو ما يتخذه الكاتب والروائي الأميركي من أصل بولندي بول أوستر لسرد تفاصيل حياته وكشف خصائص شخصيته والإحساس بالجسد الذي يسكنهُ ويمثله في كتابه المعنون بـ "حكاية الشتاء" الصادرة عام 2015 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، إذ قلما يتطرق صاحب "قصر القمر" في سيرته إلى موضوعات لا ترتبط بحياته الشخصية، وإذا توقف عند قضايا سياسية يُحاول أن لا يخرج عن مدارات الذات، بل يفسر التحولات من منطلق ذاتي عندما يقارن بين وجهين للحياة في زمنين مُختلفين. ولا يحتاج القارئ لعناء البحثِ حتى يعرف ميول الكاتب السياسية، من دون أن يصرح الأخير بذلك. فهو ينصحُ والدته بعد موت زوجها الثاني بأن تنضم إلى الحزب الديمقراطي وتقضي أوقاتها في الاهتمام بالشؤون الإنسانية. ويذكرُ بول أوستر ما سبب له إيراد بعض معلومات خاصة بتاريخ أسرته داخل أعماله الروائية، خصوصاً (اختراع العزلة) من المشاكل مع أقاربه. يُذكر بأن أوستر لا يُخفي حساسيته إزاء تلك المظاهر التي تُوحي بمعاداة السامية وإبادة اليهود، كما يُعلنُ عن انتمائه اليهودي ويُبدي استغرابه بأن زواجه دام لمدة ثلاثين سنة مع زوجته الثانية كونه مُتعثراَ في معالجة شؤون القلب. يتبنى مؤلف "حماقات بروكلين" ضمير المُخاطب في استعادته لشريط حياته كأنَّ بوستر أراد من خلال هذه التقنية أن يُقيمُ حوارا صريحاً مع الذات ومن ثُمَّ يأتي الاهتمام بالمقابل في المرتبة الثانية. مَجاهل الجسد إن تعامل بوستر مع الجسد ومراقبة تطوره واكتشاف وظائف مكوناته لا يختلف عن رغبة الرحالة الذي يُنَقِّبُ عن تجاويف أراض جديدة، حيث يتذكر الأحداث التي قد تركت آثاراً على محياه، كما أنَّ لعبة بيسيبول التي يعشقها تعتمد على بنية جسمانية متينة، بجانب ذلك يستعيد مغامراته المبكرة في التواصل الجسدي مع الجنس الآخر، إذ وقع في حب البنت الصغيرة (كاتي) وهو في الروضة، كما يبوح بأنه مرَّ بمرحلة كأي ذكور قد استحوذ فيها الاهتمام بالجسد على غيره. ويشير إلى أنه عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره عانى من حالة التأزم الجسدي وشعر بأنه فتى صغير في جسم رجل، ومن ثًم يكتشف مع زميله في العمل الطريق إلى بيوت بائعات الهوى، هنا يرى الهوة التي تفصل بين شخصين جسدهما يتواصلان آليا ويغيبُ ما يضيفُ معنى آخر إلى هذا العطش الغريزي. ومن ثُم تأتي مرحلة السفر إلى باريس واحتكاكه بعالم صاخب ويديرُ عدسته صوب شارع (ساِن دنيس) ويبدأُ برواية قصته مع الفتاة الفرنسية (ساندرا) التي كانت تترنم بقصائد بودلير، لمْ تكن ساندرا فتاة عابرة بالنسبة لأوستر، بل هو يسميها بـ (كاما سوترا) تارة وبـ (الملكة) تارة أخرى أعجبته طلاقتها في الكلام وتناغمها مع سحر الجسد، إذ يعترفُ صاحب "ثلاثية نيوريوك" بأنِه عندما عاد إلى أميركا فكر جدياً في ركوب الطائرة والذهاب مجددا إلى باريس لطلب يد ساندرا. يعتقدُ بول أوستر أنَّ الكلمات ما هي إلا إيقاع الجسدِ، وبرأيه أن الكلمات تُولد من المشي ويستشهدُ في هذا السياق بما قاله ماندلستام عن دانتي، إذ يتساءل الأول عن عدد الصنادل التي انتعلها الأديب الإيطالي وبليت وهو يكتبُ "الكوميديا الآلهية". وذلك يحليك إلى مبدأ الفيلسوف الألماني نيتشة الذي رأى أن أعظم الأفكار هي التي تومض في رأسك وأنت تمشي. عقدة الأُسرة لم ينشأ بول أوستر على كنف أسرة متماسكة، بل هو يذكر بأنَّ تهمة الخيانة الزوجية طاردت أمه، كما يتوقف عند اللحظة التي أثارت شكوكه عندما سمع شخصا يتبادل الحديث مع أمه عبر الهاتف، ما دفع به إلى أن يتجرأ للسؤال عن هوية هذا الرجل من أُمه، فالأخيرة تتجاهل السؤال وتريد إقناع ابنها بعدم تذكر مثل هذا الأمر. ولا يتحمل والداه الحياة مع بعضهما بعضا إلى أن ينفصلا. لا يسردُ أوستر شيأً عن أبيه سوى شغله ولحظة موته، كما يورد قصة مقتل جده من أبيه على يد جدته. ولا يفوته ذكر فارق السن بين أبيه وأمه والتسرع في قرار الزواج، ما أدى أخيرا إلى انفصالهما، لا تنطلي حقيقة إعجاب الكاتب وتعاطفه مع أمه فهي اهتمت به في صغره يصفها بأنها فائقة الذكاء بارعة في رواية النوادر والطرائف وفي السياسة، كانت ليبرالية هذا جانب من شخصية الأم. أما جانب آخر من تركيبتها فتبدو فيه مصابة بمرض الأعصاب خائفة، فهي ضحية هجمات الحصر النفسي. تُخلف وفاة الأم حالة نفسية مرعبة لدى الابن فالأخير يهاتفها بيوم قبل أن تفارق الحياة ويقول: لم تبدُ لي سعيدةً بهذا القدر منذُ سنوات خلت. إذ يروي بول أوستر ما يتعلق بأمه من المواقف والمشاهد فهي لعبت معه بيسيبول وفرضت نفسها بأناقتها وجمالها على الجميع، كما لا يتغافل الابن عن ذكر الحديقة التي أنشأتها الأم ووقوفه بجانب دوار الشمس ليقيس قامته مقارنة بارتفاعه. تُعتبر تجربة أوستر مع زوجته الثانية محطة مهمة في حياته، فهي روائية أيضاً من مينيوستا تربت في حضن أسرة بروتستانتية صلبة لذا وجد أوستر في هذه الأسرة ما افتقده في طفولته من سقف عائلي قائم على مداميك راسخة. السفر والانتقال من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى بلد آخر صفة غالبة في سيرة بول أوستر، حيثُ يسجلُ عناوين وأرقام الشقق السكنية التي أقام فيها في المدن الأميركية وفي باريس، كما أنَّ الكتب تأخذ حيزاً واسعاً في كل مكان يحل فيه أوستر الذي بدأَ بكتابة الشعر ومن ثمَّ تحول إلى النثر. ما يكون مثيراً بالنسبة لهذا الكاتب هو سيناريوهات النهاية فهو قد شارف على الموت أكثر من مرة بسبب حادث السير، وتوقف حسكة السمك في حلقه، الأكثر من ذلك رأى بوستر في طفولته وجه الموت على جسد صديقه الذي قد صعقه الرعد، ويلفت إلى حالات الموت في أُسرته كما تدهشه المفارقة في حالة وفاة والد صديقه الذي كان جندياً في الحرب العالمية الثانية، جرب أهوال ومخاطر الحرب لكنه يموت إثر انزلاق رجله فيرتطم رأسه بالأرض. درس أوستر في جامعة كولومبيا وهو من طلاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، لكنه أعرض عن الحياة الأكاديمية لإدراكه أن الكتابة تتطلب خوض حيوات متعددة.
مشاركة :