محاولة سبر أغوار نشأة ريادة الأعمال لا تنحصر في استقصاء تاريخي لكلمة؛ إذ إن كلمات مثل رائد أعمال أو الرواد كانت موجودة منذ قرون طوال، ولكنها اشتغال على جينالوجيا (شجرة أنساب وأصل) المفهوم ذاته. وعلى صعيد الاشتغال المفاهيمي المتطور _إذا استثنينا تحديدات بعض الاقتصاديين الأوائل_ فإنه قد يكون في وسعنا الجزم بأن نشأة ريادة الأعمال كانت مرتهنة بنشأة نوع معين من الرأسمالية هو رأسمالية المنافسة والاحتكارات. وخضعت الرأسمالية، كنظرية ونظام اقتصادي، إلى العديد من التطورات، ولعل الحديث عن «صناعة الثقافة» الذي تبناه ثيودور أدورنو؛ ومحاولة إدخال رأسماليي القرن السابع عشر تحديدًا الترفيه والتسلية في بنية أعمالهم؛ دفعًا للعمال والشغيلة للوصول إلى أقصى طاقتهم، واحد من أبرز التجليات التي خضع لها هذا النظام الاقتصادي. ناهيك عن المفهوم الرائج حاليًا وهو «الرأسمالية الواعية» الذي يروج له راج سيسوديا؛ أستاذ في الأعمال العالمية في كلية بابسون، والمقصود به ذاك النوع من الرأسمالية «الواعي» بالدفوعات النقدية التي توجه له، والذي يحاول الاستفادة منها قدر المستطاع. نشأة ريادة الأعمال إذًا كانت مرتهنة بالتطورات الأخيرة التي خضع لها النظام الرأسمالي؛ حيث كانت (الريادة) إحدى محاولات الرأسمالية للتخلص من عيوبها ومعالجة أعطابها. سوى أن ما حدث من تطورات على بنية نظرية ونظام ريادة الأعمال كان مفاجئًا حتى للرأسمالية ذاتها؛ إذ بدأ هذا النظام الوليد يذهب في مسارات لم يكن الرأسماليون يتوقعونها، وما المسؤولية الاجتماعية في ريادة الأعمال إلا أحد تجليات هذا التطور، طالما فهمنا أنها (المسؤولية الاجتماعية) نظرية اجتماعية/ اقتصادية قائمة بذاتها وليست سليلة النظام الرأسمالي. ولكي تدرك ذاك الربط الذي نقدمه بين نشأة ريادة الأعمال ونمط معين من الرأسمالية إليك ما كتبه الاقتصادي ليستر ثورو: «رواد الأعمال هم أولئك الذين يجلبون التقنيات الجديدة والمفاهيم الجديدة إلى الاستخدام التجاري النشط؛ إنهم وكلاء التغيير في الرأسمالية». اقرأ أيضًا: ريادة الأعمال ورفع جودة الحياةرواد الأعمال في التنظير الاقتصادي مقولات مثل “رواد الأعمال”، “رائد الأعمال” كانت موجودة من قبل، كما أسلفنا أعلاه، سوى أن هناك ثلاثة مفكرين اقتصاديين هم الذين أدمجوا هذه المقولة «رواد الأعمال» في بنية تنظيرهم الاقتصادي، وهم: جوزيف شومبيتر؛ فرانك نايت؛ وإسرائيل كيرزنر. ورأى جوزيف شومبيتر _وسنعود إلى طرحه فيما بعد لما ينطوي عليه تنظيره من أهمية_ أن رواد الأعمال هم أولئك المسؤولون عن صنع أشياء جديدة في معرض بحثهم عن الربح. فيما ركز “نايت” على رواد الأعمال باعتبارهم القادرين على التعامل مع عدم اليقين، وعلى تحمل المخاطر العالية أملًا في الحصول على الربح والمكافآت. في حين اعتبر “كيرزنر” أن ريادة الأعمال عملية تؤدي إلى الاكتشاف. والشيء اللافت هنا أنه على الرغم من الأهمية الكبرى التي يتبوأها آدم سميث في تاريخ علم الاقتصاد وتطور النظرية الاقتصادية بشكل عام، وعلى الرغم من أنه كان أول من وصف بالتفصيل الإنتاج الرأسمالي، فلم يكن هو من ابتكر مصطلح “رائد الأعمال”؛ فأحد العيوب الجوهرية في كتابه المهم “ثروة الأمم” هو إغفاله مصطلح “رجل الأعمال”. ذاك النقص أتمه، فيما بعد، أحد المعجبين بكتابات آدم سميث وهو المنظر الاقتصادي جان باتيست ساي. اقرأ أيضًا: مفاهيم مضللة عن ريادة الأعمالنشأة ريادة الأعمال مصطلح ريادة الأعمال مشتق من الكلمة الفرنسية “Entreprendre” والتي تعني “التعهد” أو “متابعة الفرص” أو “تلبية الاحتياجات والرغبات من خلال الابتكار والأعمال التجارية المتميزة”. وظهرت الكلمة لأول مرة في القاموس الفرنسي عام 1723. يُعتقد أن المصرفي الأيرلندي الذي يعمل في فرنسا “ريكاردو كانتيلون” كان أول شخص استخدم كلمة “entreprendre” في الاقتصاد كـ “وكيل يقوم بتجميع المواد/ المدخلات لإنتاج السلع بسعر محدد ومن خلال التنسيق من هذه المدخلات تنتج سلعًا يكون سعر بيعها غير مؤكد مقارنة بتكلفة الإنتاج”. ويُعتقد أيضًا أن الفرنسي جيه باتسيت ساي؛ نفسه، استخدم مصطلح “رائد الأعمال” لأول مرة كعامل اقتصادي يجمع عوامل الإنتاج بطريقة يمكن من خلالها تكوين ثروة جديدة. وبغض النظر عما إذا كانت نشأة ريادة الأعمال مرتبطة بجان باتيست ساي أم لا، فإنه لا يسع أحد إنكار أهمية كتابه «أطروحة عن الاقتصاد السياسي: أو إنتاج وتوزيع واستهلاك الثروة» واستحواذه على خيال العديد من المفكرين والعوام على حد سواء. اقرأ أيضًا: ريادة الأعمال والقضاء على البطالة.. حلول فعالة «شومبتير» والتدمير الإبداعي في سياق حفرنا الجينالوجي حول نشأة ريادة الأعمال لا يمكننا أيضًا إغفال أهمية تنظيرات عالم الاقتصاد والاجتماع الألماني جوزيف شومبيتر، والتي من بينها نظريته عن «التدمير الإبداعي» والتي هي، من حيث العمق، تعبير عن جوهر ريادة الأعمال أو كما نفهمه على الأقل. يقصد «جوزيف شومبيتر» بـ «التدمير الإبداعي» قيام صاحب المشروع أو رائد الأعمال ليس باختراع أشياء جديدة فحسب، ولكنه يستغل الأشياء القديمة بطرق جديدة، إن رائد الأعمال، منظورًا إليه من زاوية «شومبتير»، يبدو وكأنه أقرب إلى الفنان، فهل يفعل الفنان إلا محاولة صهر العالم القديم واستخدامه لصنع واقع جديد؟! وساق هذا التحليلُ جوزيف شومبيتر ليحدد خمسة أنواع من النشاط يمارسه رواد الأعمال، وهذه الأنواع هي:ابتكار منتجات وخدمات جديدة.ابتكار عمليات جديدة أو طرق إنتاج جديدة.ابتكار وفتح أسواق جديدة.ابتكار المدخلات أو الموارد.الابتكار التنظيمي، وهو إعادة الهيكلة الكاملة لصناعة بأكملها. وهكذا نفهم أنه ليس ممكنًا فهم نشأة ريادة الأعمال ولا الوقوف على جذورها الأولية من دون المرور على تنظيرات جوزيف شومبيتر وتأملاته النظرية الفريدة. اقرأ أيضًا: إسهامات ريادة الأعمال في نمو الاقتصاد 5 أسئلة تكشف لك كل ما تجهله عن ريادة الأعمال تدريس ريادة الأعمال.. مغامرة في الممكن
مشاركة :