أكان لأحدنا أن يتخيل (الربع الخالي) أو (الصحراء الكبرى) وهي عامرةٌ بالشجيرات، أو الحشائش.. وتقطنها أنواعٌ من الكائنات المستوطنة التي عادةً ما نجدها في ربوع الغابات أو السهول العشبية؟ قد يبدو هذا التصور خيالاً فانتازياً إذا ما طرأت على أذهاننا صور الصحرى بمساحاتها الشاسعة الخالية إلا من الحجارة والرمل، وما ندر من النباتات والكائنات، فكيف إذاً يعنون جيولوجياً بارزاً على المستوى العالمي، محاضرتهُ بـ «عندما كانت الصحراء خضراء»؟.هذا ما يكشفه لنا العالم المصري الأمريكي فاروق الباز، الذي استضافه «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»، في الثاني من (نوفمبر)، عبر بثٍ رقمي، لإعطاء لمحة موجزة عن هذه العوالم، وكيفية الاستفادة من دراستها حاضرًا ومستقبلاً، فالباز اسمٌ ذائعُ الصيت عربيًا وعالميًا، وقد سبق له العمل في في «وكالة ناسا» مساعدًا في الاستكشاف الجيولوجي للقمر.إنسان ما قبل الصحراءليس مستغرباً أن تكون الصحاري غابات، وأن تكون أشدُ بقاع الأرض جفافًا ملأى بالأنهار، هذا ما يؤكدهُ لنا «علم المناخ التاريخي» الذي يدرسُ التحولات التي شهدتها مناخات الكرة الأرضية على مدى ملايين السنين، بيد أن محاضرة الباز، جاءت للتركيز على الحصارى الخضراء قبل عشرات الآلف السنين، مستعيناً بمجموعة من الصور الفضائية، والخرائط، والصور التوضيحية الناتجة عن البحوث الميدانية، التي يتأسفُ على كونها «قليلة جدًا بشكلٍ مخجل». يؤكدُ الباز بأن دراسة الصحراء لابد أن يستعان فيها بالصور الفضائية، ليتبعها البحث الميداني، مبيناً بأن المنطقة العربية، تتميزُ بصحاريها الممتدة على مساحات شاسعة جداً، وهي من أكثر المناطق جفافاً في العالم، بيد أن الصور الفضائية «تؤكد وجود مجموعة من الأنهار التي تشق هذه الصحارى»، وبالتالي فإن الدراسات الميدانية تبين «رواسبًا تثبتُ صحة الفرضية، لتجيء اللقى الأثرية وبعض المتحجرات، مؤكدةً على وجود الإنسان قديماً وسكنهُ في هذه المناطق التي أضحت الآن صحارى، فلو لم تكن عامرة لما سكنها الإنسان في الأزمنة البعيدة، كما أن إنسان هذه المناطق استخدم الصخور لاستخلاص أدواته المختلفة، والتي بقيت شاهدًا على وجوده»، وهذا ما تؤكدهُ اللقى في عددٍ من المناطق الصحراوية في المنطقة العربية.ويلفتُ الباز إلى الكثير من الشواهد الأخرى التي تعود لآلاف السنين، والتي تؤكد وجود الإنسان في هذه المناطق، مبيناً أن «الرسوم الجدارية التي رسمها الإنسان قبل آلاف السنين، تدلل على وجود كائنات كالأبقار، والزرافى، والنعام، إذ أن وجود هذه الكائنات دلالة على وجود الأشجار والأحراش»، لافتاً إلى أن الصحارى الحالية انتقلت من كونها غابات، مارةً بمراحل الأراضي العشبية، وصولاً لتصحرها كما هي الآن.أنهار الجزيرة العربية!يشير الباز إلى أن «الصور الرادارية الفضائية، تثبتُ لنا تشكيلات الأنهار التي كانت تمرُ بالصحارى العربية»، وقد استعان العلماء بهذه الصور لرسم خرائط هذه الأنهار، وبناءً عليها «استطاعنا اكتشاف أنهار في صحراء مصر»، حيثُ طلب الباز من المسؤولين المصريين، حفر أبار، بيد أن هذا الطلب لم يستجب لهُ إلا بعد (13) عاماً، ليتم اكتشاف مياه جوفية كثيرة جداً، ولتصبح هذه المناطق الصحراوية المسمى الآن بـ «شرق العوينات»، مزارع عامرةً بالقمح، وبعض أنواع النباتات، وتحولت هذه الصحارى إلى مناطق خضراء مسؤولة عن توفير جزء لا يستهانُ به من الأمن الغذائي.لهذا يؤكد الباز على ضرورة دراسة واستكشاف المناطق الصحراوية، وإمكانياتها في تحقيق الكثير للبلدان العربية، لافتاً إلى أن «صحارى الجزيرة العربية، كانت مليئة بالوديان والأنهار، حيثُ كانت غنية بالأمطار الغزيرة»، داعياً للتعرف على هذه الأمكنة، والأستفادة من مياهها الجوفية، إذ أن «وسط الجزيرة العربية، تمرُ به أنهارًا تمتدُ من الحجاز، وصولاً لشمال الخليج العربي»، مبيناً أن الكويت «كانت تمثل دلتا لنهرٍ كبير يمرُ بالجزيرة العربية» وهذا ما أثبتتهُ دراساتهُ المختلفة في المناطق الصحراوية بالكويت، أثناء حرب الخليج.كما لفت الباز إلى أن أنهار الخليج العربي العذبة القديمة، تتصلُ بالبحار، «وقد استعان بها الغاصة للوصول إلى المياه العذبة في رحلات الغوص، إذ كان هؤلاء قادرون على تمييز المياه العذبة من المالحة، ومعرفة أماكنها»، وفي أثناء بحثه عن سبل الوصول إلى هذه المياه، استبحث الباز مجموعة من غاصة الخليج، الذين بينوا بأنهم يميزون هذه المياه من «لمعتها»، ولتأكيد ذلك سأل الباز علماء البحار في أمريكا، والذين أكدوا بأن «حركة المياه السطحية تختلف بين الماء المالح والحلو، إذ تكون أكثر سلاسة في الماء الحلو، وهذا يعطي لمحة تختلف عن تلك التي يمتاز بها الماء المالح»، وهي كما يقول الباز دلالة تنبه غاصة اللؤلؤ إليها قديماً في الخليج العربي.انزياح وتغيرُ مناخ!إن التغير في الوجود سمةٌ طبيعية، وهي كذلك على صعيد جيولوجيا الكرة الأرضية، إذ يتوجبُ علينا استكشاف هذه التغيرات وإدراك ما تؤدي إليه من تحولات، والاستفادة منها في حاضرنا ومستقبلنا، كما يؤكد الباز، مبيناً بأن «شبه الجزيرة العربية كانت قبل ملايين السنين، ملتصقةً بأفريقيا، حيثُ أدى كسر في القشرة الأرضية إلى انزياحها وابتعادها عنها، متجهةً نحو الشمال، وهو ما أدى إلى إحداث ضغط على قارة أوروبا، نتج عنهُ جبال الألب، وما تزال الجزيرة العربية تنزاحُ نحو الشمال الشرقي، بمعدل إثنان إلى ستة (سم) في العام الواحد».هذا الإنزياح كما يبين لنا الباز، يؤدي إلى اختلافات مناخية، تسببت للجزيرة العربية، والصحراء الكبرى بجفافٍ نعيشهُ الآن، وهو عائدُ في أصله إلى اتجاه الكتل القارية نحو الشمال، وهو الإنزياحُ ذاته المسؤول عن اختفاء ثلاث أنهار كبرى كانت تمرُ بالجزيرة العربية، جاعلةً من بعض بلدانها، كالكويت، وبعض إمارات الإمارات العربية دلتا غنية لأنهار قديمة.وعلى ذلك يؤكدُ الباز على ضرورة تكثيف الدراسات الصحراوية، والتعمق في الدراسات الجيولوجية، خاصة وأن الصحارى في الوطن العربي تشكل الجزء الأكبر من مساحاتها، لافتاً إلى أنهُ أطلق عدة جوائز للدراسات الصحراوية، في العالمين الغربي والعربي، اسهاماً منهُ لتنشيط هذا المجال، مؤكداً بأنهُ «يتوجب أن تكون ما نسبتهُ 90% من دراساتنا في العالم العربي مخصصةٌ للصحراء»، مضيفاً «علينا كجيولوجيين أن نعمل على دراسة هذه الأمكنة، واستخلاص نتائج تنعكسُ علينا في استكشاف الأمكنة الصالحة للزراعة، وأمكنة المياه الجوفية، وغيرها»، لافتاً إلى ضرورة توسع شريحة العلماء في المجتمع العربي، والتي يعول عليها في تعليم الناس ومنهم القادة السياسيين، «لخلق مستقبل أفضل».
مشاركة :