في مجموعة "لاءات" للقاص أسامة قرمان، يتجلى "التناص" الذى يتواجد في المجموعة على أكثر من مستوي، ويعني للقارئ استدعاء مخزونه من القراءات والمواقف والشخصيات والتي تتماس مع النص الأدبي الذي يطالعه، ومفهوم "التناص" نقديًا يشير إلى أن كل نص أدبي في حقيقته هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى، وله مستوياته العديدة بداية بالتناص الواعي عبر "التضمين" المباشر، ونهاية بالتناص اللاشعوري، ويكون فيه المؤلف غير واعٍ بحضور نص آخر في النص الذي يكتبه. هذا ما فعلته كقارئ عندما طالعت عنوان المجموعة القصصية "لاءات"، فقد عمد النص بالنسبة لي لاستدعاء "لا" واحدة، ضمن العناوين القصيرة فى الرواية، للكاتب مصطفي أمين، تلك الرواية والتي استغرقت قرابة الألف صفحة قالت لنا: إن كلمة "لا" هي أغلى كلمة في اللغة العربية، وأنها قد تكلف قائلها حياته، لكنها كلمة تشعر الإنسان بآدميته، وتفجر بداخله براكين الغضب، وتحقق الإنسانية في أوسع معانيها. وقالت أيضا: إن كلمة "لا" وحدها لا تكفي بل يجب أن نجعل من هذا الحرف "لا" مصارعا يصارع، ومحاربا يحارب .. فالذي يكتفي بقول "لا" ولا يتحرك كأنه يتثاءب استعدادا للنوم. بالإضافة بالطبع لإستدعاء النص الشهير في قصيدة الشاعر أمل دنقل "كلمات سبارتاكوس الأخيرة": من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم" / من علم الإنسان تمزيق العدم / من قال "لا" فلم يمت / وظل روحا عبقرية الألم. أما الرافعي من طريف تصويره تشبيهه لكلمة "لا" بعقدة حبل المشنقة، وهو صادق في تصويره فهي مشنقة للثائر بداية وللظالم أخيرا، "لأن من يقول "لا" لا يرتوي إلا من الدموع" كما قال الشاعر. أما هنا، فالقاص في مجموعته القصصية لم يقل "لا" واحدة، بل مجموعة من اللاءات، وصاغ بفن الحكي قيم حرف "لا" أغلى الحروف، فالقاص موضوعيًا يؤمن بأن للأدب وظيفته الاجتماعية، لذلك قدم طعومًا مختلفة لحرف "لا"، فالقاص أطلق لاءاته وجهر بها في وجه العيوب والنقائص والأزمات، فعبر مساحة القصص نجد تلك اللاءت بطعومها المختلفة لتواجه مشكلات الداخل والخارج، وتتناول هموما عروبية ودولية.فقال "لا" لمن يذبحون هويتنا ويريقون دماء ثقافتنا علي أعتاب مذبح العولمة، وإستعلاء الأقوياء عالميًا بالقوة والجبروت، وقال "لا" للقبح واللاقيمة والفراغ والملل واللاهدف بشتي أنواعه. ومن تلك التنويعات أيضا دعوة القاص لقول "لا" إلى الداخل في ذات الإنسان، قبل الخارج للآخر. فكل "لا" من هذه اللاءات لها مذاق مختلف، صحيح أنها جميعا تستوجب سداد الثمن، والتضحية من أجلها باعتبارها أغلي الحروف، لكن لكل منها شخصيتها المميزة والمؤثرة. وعمدت قصص المجموعة في عمودها الفقري الفني على رصد لحظات التحول في شخصية الحدث القصصي، ويعد هذا الرصد من أهم مسارات العمل القصصي بالمجموعة، فالقصة القصيرة تكون جميلة إذا اتضح فيها بجلاء خط التشويق اقترانا مع خط المعني، فالتكنيك المستخدم في المجموعة يتمثل فى استخدام محطات التحول في الموقف، من خلال رصد التغيرات التي تطرأ على الشخصيات، حيث إن القصة القصيرة يصعب فيها الوصف الكامل للشخصية داخليا وخارجيا، ولكن يتم الإكتفاء بلحظة راهنة من الحياة وقد تمثل لحظة التحول فقط. والتحول في شخصيات المجموعة تم من خلال بدايات القصص والتي تشكل الألم والقهر، ورغم ذلك هناك المقاومة، والأمل في التغيير، فاستخدام مفردات مثل: "الشرنقة / التيه / الكارثة / البلاء"، يقابلها مفردات اخرى مثل: "الخروج / اللاءات / انتشال"، بما يدعم هذا التحول ويكشفه في أنحاء القصص، وهذا يختلف عن أداء قصصى نقيض يقتنيه العدميون، تبدو فيه الشخصيات مهترئة وممزقة تعاني من الانهيار والسلبية. كما تجلى بالقصص مفهوم "المقاومة بالفعل" ببحث دوافع التحريك عبر مساحة القصص تبدأ بقصة "القاهرة .. بغداد" تجسد واقع الوطن العربي المر، وقصة الختام "الخروج من الشرنقة"، والتي ترصد أنه يجب النهوض من الكبوة الشاملة وتحرير الإرادة والروح. وبذلك يمكن تصنيف المجموعة ضمن منظومة "ثقافة المقاومة" ولكن بمفهوم تلك الثقافة غير المباشر، بمعنى أن أدب المقاومة ليس رفعا لشعارات وطنية، وإنما من خلال أهم مسارات المقاومة أدبيا، بحيث لا يكون أدبا خطابيا وعظيا إنما الأدب الذي يرصد الأثر، ويكتفى بالتلميح دون التصريح. أعتقد أن من العلامات اللافتة في المجموعة طريقة الكتابة ومراعاة علامات الترقيم بشكل دقيق وموفق للغاية، مع توظيف تلك العلامات في موضعها المناسب فنيا، فالكاتب المسرف في علامات الترقيم كالتاجر الذي ينفق بلا حكمة أو هدف استثماري فني. ناحية أخرى تتصل بتوظيف الحوار تشكيليا في ثنايا السرد بوضعها بحروف سميكة، بحيث تجعل القارئ على تمام الوعي بتنحى الرواي، وترك الفضاء للشخصيات، لتتحدث هي، ويخبر الحوار عن تعدد الأصوات في القصص. الحركة والسير والمشي نجدها في ثنايا أغلب القصص بالمجموعة، حيث انشغال القاص بقضية رصد المشكلات الاجتماعية من حياة الشارع وركوب الحافلات العامة، أيضا يوضح ملامح الضياع والتي غالبا تكون في بدايات القصص، فمن حركة السيارة التائهة أو ركوب وسائل المواصلات بلا هدف، وهو تعبير بالحركة عن حالة الملل والألم، كما أنها رمزية للبحث عن الأصالة والمشروع القومي. أما الدلالة الرمزية والتي يقرأها المتلقي بين ثنايا السطور عبر خط الحكاية الظاهرة كأحداث لها خطها الدرامي البياني المعروف بالقصة القوس، وتلك الرمزية تمثل قراءة تأويلية ومصباحا هاديا يكشف لنا مضمون القصة، والرمز في القصص سهلا، والذي يلقي القاص مفاتيحه بين حنايا السطور بجلاء، وتلك وسيلة أدبية مهمة بمشاركة القارئ وتفعيل ذهنه. ولا شك أن نجاح المقاومة في تحقيق أهدافها يكون بالاستمرار فيها، وتلك قضية الأديب هنا، أن يبقي الجذوة مشتعلة، فإدراك حجم المأساة هو الخطوة الأولى الصحيحة في الطريق نحو الكفاح، فالصراع مستمر بين الفعل والجمود، بين الثلج واللهب. والمجموعة مكونة من خمس عشر قصة، وفي قصة "القاهرة – بغداد"، اختار القاص أن تكون قصة المفتتح للمجموعة صرخة في وجه القوى الظالمة كونيا، فقال "لا" في وجه سادة العالم الجدد رعاة البقر، ولأنه قال "لا" فرأسه تستحق التحطيم، لأنها أبت عملية التطويع المهينة. يقول القاص في تعبيره الضروري: "أفيق من غيبوبتي .. انتبه .. أنهض .. اندفع نحو الغزاة ..". أما قصة "لاءات" فاقتنت تشكيل "التقطيع"، وتؤكد وجهة النظر بتعدد تلك اللاءات، والمهام التي تؤديها، من خلال استعمال المستوى الرمزي في القصص. المقطع الأول يشير نحو استدعاء صورة مهينة عبر النخاسة ورمزيتها المعبرة باستباحة المرأة والمتاجرة بها عبر الشاشات الفضية، لتصب أموالا هائلة في جيوب النخاسين. المقطع الثاني تقدم الإنسان العادي تحت ضغط المعاش، قد يصرخ ولكن "لا" عنده محشورة في الحلق ومرة في القلب. ومهرجان لثم الأيدي تدل على سيادة لغة المصالح في المجتمع وفحيح النفاق الذي أمتلأت به أركانه. أما القائل "لا" في قصة "حكاية الشيخ علي"، موظفًا لا يفصل بين واجبات وظيفته وصراعه مع مدير المدرسة، كلمة "لا" من جانب الموظف في غير مكانها الصحيح، القاص كراوٍ ومشارك في الأحداث شاهدا ينقل لنا أيضا عدم التعاطف مع هذا التمرد غير المسئول بعيدا عن نطاق الفعل، بل التمرد من أجل الانتصار للذات، القضية هنا تصاعد الصراع علي هذا النحو الدرامي بين المدرس والناظر واستمتاع الشهود بأوار تلك النار الملتهبة فأصبح الآخرون يمدون أطراف العراك بأنباء الطرف الآخر، القاص يلفت أنظارنا في هذه القصة إلي وجوب قول "لا" في مكانها الصحيح. وفي قصة "جرح بيكاديلي"، يصف أسر عادة القمار لرجل لم يستطع أن يقول "لا" لتلك العادة الكريهة، أي لم يستطع أن يقول "لا" للداخل، الخسارة ليست مادية فحسب، بل قبل أن تكون مادية فهي إنسانية بالمعني العميق لأن شخصية الحدث القصصي خسرت كلمة "لا" بما تبثه من عنفوان وتأييد. القصة تدور في أنحاء الغربة أيضا بلندن، قضية السير والمتاهة واضحة أيضا. في عالم فانتازي مثير بقصة "سر البلاء" يتحدث "القط" ممثلا لعذاب الحرمان، رغم تلك الرفاهية التي يحيا فيها، لكن الحرية أثمن من هذا الترف، يذكرنا بقول القائل: "لو كانت أجمل البساتين سجنا لي لقفزت من فوق أسوارها البلورية لائذا بالفرار"، القط هنا يمارس الاعتراف والشهادة علي طبقية المجتمع، فهناك شريحة مترفة، تبحث عن علاج القطط وتمنحها نظرة الرضا، وأخرى تلهث وتتعذب وراء لقمة العيش. نكتشف أن القط المدلل من مجاوري تلك الطبقة المترفة، بينما البواب العجوز يحصل علي القديم من الملابس. وسر البلاء لمن يفقد إحساسه الإنساني فيبكي على الحيوان ولا يبكي على الإنسان. وفى قصة "انتشال" نجد رمزية التعبير عن الفوضي العارمة، والنفايات الداخلية جسدها في القصة ماديًا: "بقايا الطعام .. والأكياس الممتلئة بقشر البيض والموز .. والبصل .. والأغلفة السلوفان .. وأعقاب السجائر .. إلي آخره"، هنا "لا" تقول رتب نفسك داخلك بداية، وأشعل جذوة غضبك تتقاطر منها كرات النار. إنها "لاءات" صرخة ضد كل القيود التي تحطم الإنسان بلا أمل في التغيير.
مشاركة :