كان يحب الرسم والنحت والفنون، وجد فيها ضالته التي طالما بحث عنها، لم يتردد في إخبار والده بأنه اختار كلية الفنون دون غيرها لتكون مستقبله القادم وأنه سيتمرد على رغبة أبيه في أن يكون مساعده في عمله التقليدي. أطرق والده ممتعضاً وسأله «ماالذي ستجنيه من هذه الكلية؟ أي عمل ستعمل؟، اختر عملاً يضمن لك عيشاً كريماً على الأقل». دافع بضراوة عن اختياره وأنه سيصبح مدرساً للفنون وفناناً مشهوراً يشار له بالبنان. كان شاباً صغيراً أخضر العود والأمنيات، لم يكن يعلم أن شمس الأيام كفيلة بإحراق بتلات الأحلام والأوراق وعود العمر ذاته. لم يكن يعلم أن عصر الفتنة القادم لا مكان فيه للحالمين والفنانين وأن الفن الوحيد الذي سيزدهر في وطنه هو فن إرسال الآخرين إلى الجحيم بطرق مبتكرة لا تخطر على البال. سريعاً تحولت بغداد بلاد الفتى الحالم إلى ساحة معركة عبثية لا تنتهي فصولها، حصار مرير لأكثر من عشر سنوات ثم غزو أمريكي مسلح ينهي الحصار لتعقبه النار والقتل والفوضى. شيئاً فشيئاً تتحول يوميات الحياة وتفاصيلها إلى مراوغة مستمرة للخلاص من الموت، لاقتناص ومضة من الضوء تبقي الأمل في غد أفضل قد يجيء قريباً. لكن ذلك الغد تأخر كثيراً، وقارب الأمنيات تحطم قبل أن يشرع رحلته نحو عالم الفن ودون خيار وجد نفسه يتخلى عن حلمه في أن يصبح فناناً ليرتدي زي والده المتوفى ويأخذ مكانه في مهنة (غسيل الموتى). ولدهشته وجد أن مهنة والده التي كانت دوماً شحيحة الرزق قد ازدهرت وحدها في عصر الفتنة، وأصبح الطلب على خدماته رائجاً جداً ولأبعد الحدود. وجد نفسه يقابل كل الناس بمختلف طبقاتهم ودرجات ثرائهم، لكن بعد أن يسلموا الروح، فقط تتنوع أساليب مغادرة أرواحهم للجسد بين رصاصة في الرأس أو شظية قنبلة في سوق أو حريق نتيجة قصف طائش، في معظم الأحوال كان من يرسل العراقيين للموت هم العراقيون أنفسهم، وذلك ما كان يثير حيرته الدائمة، أمه وجاراتها الثكالى يعتقدن جازمات أن تلك مؤامرة من السنة على الأقلية الشيعية، عمه المثقف يقول إن الطائفية وجدت فرصتها في الانتشار لتملأ الفراغ الذي تركه الاستبداد والجهل وأنها ستأخذ نصيبها من الدماء حتى يستفيق الشعب ثم تنحسر. لكن لاشيء من ذلك يشفي غليله أو يطفئ حيرته وهو يجرد الأجساد من ملابسها ويغسل عنها الدم والسواد ويلفها في الكفن الأبيض، ثقل كبير يتعاظم فوق قلبه مع كل كفن يلفه، مع كل تابوت يغادر، مع ماء الغسل الذي يتجمع خارج غرفة الغسل ليصب في الفناء الصغير، حيث شجرة الرمان الوحيدة ترتوي بماء الحزن ذاك والمثقلة بثمارها المكتنزة. تلك الثمار التي عافها منذ عرف غرفة الغسل والدماء والأكفان والحزن، لكنه الآن وهو يغلق الباب خلفه يقف أمام شجرة الرمان يدرك لأول مرة كم هما متشابهان، كيف أنهما مزروعان في مستنقع الموت ويرتويان من مائه الحزين، تنوء الشجرة بثمارها الحزينة وتثقل روحه كل تلك الأكفان التي لفها حول وطنه بلا أمل في نهاية قريبة! وحدها شجرة الرمان هي التي تفهم حزنه ورغبته في الفرار من هذه البلاد الكسيرة مهما كلفه ذلك من ثمن!. (وحدها شجرة الرمان) رواية حزينة ومتقنة السرد للروائي والشاعر العراقي سنان أنطون تحكي كثيرا عن واقعنا وعن المستقبل الذي ندعو الله أن لا نصير إليه!
مشاركة :