تراث الاستعلاء بين الفولكلور والمجال الديني

  • 12/4/2020
  • 02:05
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

من الضروري التخلي عن النظرة التي ميزت الحقبة الماضية في دراسة التراث الشعبي العربي، والتي اتسمت بثلاث زوايا لا تخلو من التطرف الفكري، أولها الإدانة المطلقة لكل عناصر التراث الشعبي. والزاوية الثانية تمثلت في التمجيد المطلق لكل عناصر التراث الشعبي باعتباره مصدر قلب الأمة النابض بالحياة وجوهر هويتها والمصدر المطلق للحكمة الإنسانية، وتمثلت زاوية النظر الثالثة في الوقوف على الحياد من خلال جمع عناصر التراث بطريقة علمية صارمة، بصرف النظر عن قيمته ومحتواه؛ بمعنى عدم الحكم القيمي على التراث لا بالإيجاب ولا بالسلب.أرى أن نتخذ مسارا مختلفا يدعو إلى ضرورة تطوير التراث الثقافي العربي، والاهتمام العلمى بالتراث الثقافي من واقع أولويات التقدم والتنمية، كون الأولويات التنموية تفرض علينا ضرورة التخلص من المشكلات الاجتماعية المزمنة كالفقر، والاستعباد الاجتماعي، وعدم المساواة، وفجوات العدالة الاجتماعية. وينبغي أن تتجه عيون البحث العلمي الدقيق إلى التنقيب داخل التراث الشعبي لفهم حدود التشابك والتضافر العميق بين كثير من هذه المشكلات، وعناصر التراث الشعبي المعززة لها. وبموجب تلك الدعوة الجديدة يتعين النظر إلى محتوى التراث الشعبي، ليس بوصفه كيانا متجانسا، وإنما مصدرا للتنوع الثقافي بكل ما ينطوي على ذلك من ثراء وتعدد في زوايا النظر إلى الحياة والقيم الإنسانية المرتبطة بها.ويمثل تراث الاستعلاء أكثر جوانب التراث اللا مادي تأثيرا في تفاقم الصراعات الاجتماعية القائمة على روح التعصب والتطرف والكراهية. وهو قائم في كثير من الثقافات الإنسانية في كل أنحاء العالم، وليس قاصرا على المجتمعات العربية، بموجب وجود قدر ما نسبي من التعصب في النظرة للآخرين كامن في كل الثقافات الإنسانية بصورة أو بأخرى.وتتنوع أنماطه بين «الاستعلاء البدائي» ونقصد به صور التمييز الثقافي المرتبطة بالخصائص الاجتماعية التي تنتشر بصورة تلقائية في ظل أنماط من الحياة البسيطة التي تحتل فيها قيم الذكورة والفحولة والعشائرية والإثنية أهمية كبيرة في حياة البشر. و«الاستعلاء الطبقي» الذي يميز بين الناس في الحقوق والواجبات على أساس المكانة والحظوة الاقتصادية. و«الاستعلاء الديني»، المرتبط بالاختلافات الدينية، الذي يمثل أشد أنماط الاستعلاء خطورة على الاستقرار والسلام الاجتماعي، خصوصا حين يصبح الانتماء لدين معين مبررا للتمييز في الحقوق والواجبات بين البشر وإقصاء المختلف. وقد شاع هذا النمط من الاستعلاء الديني داخل حركة الإسلام السياسي.وحرصت على معالجة الإشكالات المترتبة على ذلك في كتابي (تراث الاستعلاء بين الفولكلور والمجال الديني) من خلال سبعة فصول: يعرض الأول قراءة نظرية حول مفهوم التمييز الثقافى والمفاهيم المرتبطة به، وكذلك المداخل النظرية لتفسير صور التمايز في التراث اللا مادي، والثقافة المجتمعية السائدة. وفي الفصل الثاني تحليل لصور التمييز الثقافي، من واقع دراسة ميدانية للتراث الشعبي المصري. حيث ركزت الدراسة على الصور النمطية السلبية المعبرة عن التمييز الثقافي عبر كافة التباينات الاجتماعية النوعية والعمرية والطبقية والجغرافية والدينية والعرقية والجسدية. ويتناول الفصل الثالث طبيعة الفجوة الراهنة بين التعليم والتراث الثقافي وجذورها التاريخية والعوامل التي ساهمت في تفاقمها، خاصة في ظل العلاقة الملتبسة بين التراث الشعبي والتراث الديني. ويقدم الفصل الرابع عرضا نظريا حول فكرة المجتمع المتخيل وآليات تفعيلها في الواقع، وهي الفكرة التي تكمن خلف معنى الاستعلاء الديني، يلي ذلك تحليل ديناميكية مشروع حركات الإسلام السياسي في سعيها إلى تكوين مجتمع إسلامي جديد، وطبيعة هذا المجتمع ومسارات الوصول إليه، وتقييم حصاد تجربة الإسلام السياسي فى عملية استعادة الماضي من قلب التراث الثقافي الإسلامي القديم.ويرصد الفصل الخامس السياقات المرتبطة بتفعيل فكرة المجتمع الإسلامي المتخيل في البادية، وتطور الحركة الإسلامية، وتأثيرها في أسلمة المجتمع البدوي والسيطرة على القضاء العرفي، التي نتج عنها تأسيس القضاء الشرعي، كنمط من الحكم، يقوم على فض المنازعات بتطبيق نصوص من الشريعة الإسلامية. ويركز الفصل السادس على تحليل الوضع الراهن للمؤسسات الدينية في مصر، ورغبتها في السيطرة على المجال الديني، والصعوبات التي تواجه الدولة في إعادة تنظيم الشأن الديني بصفة عامة. وفي الفصل السابع عرض لطبيعة الجدل السائد حول تجديد الخطاب الديني، وطرح رؤية مقترحة لإعادة صياغة الفكر الديني وفقا لأولويات يتم بمقتضاها تجاوز الاستعلاء الديني الذي هيمن على المجال الديني ككل.حاول هذا الكتاب أن يعرض لتراث الاستعلاء بأبعاده وإشكالياته المختلفة وأن يفتح بذلك المجال لطرح إشكاليات تطوير التراث على مصراعيها. والأمل معقود في أن يثير هذا الكتاب النقاش حول تطوير رؤى جديدة للتراث ذات أبعاد إنسانية، قادرة على تجاوز الانقسامات والصراعات الاجتماعية، وقبل هذا وذاك، أن تكون محاولات تطوير التراث قادرة على تجاوز ثنائية الإدانة والتمجيد، والنظرة الصارمة في الوقوف على الحياد، لكي لا نترك أمر التراث خلفنا، أداة للتلاعب السياسى، الذي يؤجج الصراعات الاجتماعية والتطرف والكراهية في عالمنا العربى.< Previous PageNext Page >

مشاركة :