"حكاية الأصنام" كيف تمرد العرب على الآلهة؟

  • 12/6/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

قبل ما يقرب من أربعين سنة سبقت بعثة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وقعت حادثة كان بطلها مالك بن كلثوم، وعدي بن حاتم الطائي، حين عرف مالك أن ناقة جارته أمسكها خادم لصنم يقال له "الفلس"، ويبدو أن الجارة استنجدت به لتسترد الناقة، فتوجه على الفور إلى الخادم يطلب منه أن يترك الناقة ويحل عقالها، وبدوره رفض الخادم طلبه قائلا: إن الناقة من نصيب ربك يا مالك فلا تخفره. – أي لا تنقض عهدك معه - وذلك لم يمنعه من تكرار الطلب، وللمرة الثانية يرفض الخادم، حينها غضب ورفع رمحه وهيأه كتلميح واضح للخادم الذي خاف وحلَّ الناقة، فأخذها مالك وانصرف، وأقبل الخادم على صنم "الفلس" رافعًا يده وهو يشير لمالك يحرض الإله عليه، وأنشد يقول:  "يا رب إن مالك بن كلثوم/ أخفرك اليوم بناب علكوم/ وكنت قبل اليوم غير مغشوم".  ويقصد الخادم بشعره أن يحرض الإله على مالك الذي نقض عهده بسبب ناقة في الوقت الذي تتمتع فيه بكل حقوقك كإله غير مظلوم. يأتي دور عدي بن حاتم الذي علم بالموقف، وخاف من رد فعل "الفلس"، فأمهل الناس أيامًا ليروا ماذا يحل بمالك، لكن الأيام انقضت ولم يحدث شيء، حينها رفض عدي عبادة "الفلس" واعتنق المسيحية، وكان الخادم بعد ذلك إذ أمسك طريدة أخذت منه عنوة.  تقول هذه الرواية التي جاءت في كتاب "الأصنام" لأبي المنذر هشام الكلبي المتوفي 204 هجرية، إن مالك قد ارتكب ذنبًا جعله ينقض عهده مع الإله، ومن بعده عدي الذي رفض موقف الإله أمام الإهانة، ويورد الكلبي ضمن الرواية أن مالك أول من نقض عهده مع "الفلس" وتسبب في فتح الباب أمام الناس للخروج على ذلك الإله المسكين.   وفي رواية أخرى وقعت بعد البعثة المحمدية تحكي أن أحد وجهاء مكة واسمه أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية، لما اشتد عليه المرض، زاره عبدالعزى بن عبدالمطلب - المعروف بأبي لهب - فوجده يبكي، وتعجب أبو لهب من البكاء وراح يسأل المريض قائلا: هل تبكي من الموت وهو شيء لا بد منه؟ لكن أسباب أبي أحيحة كانت مختلفة تمامًا فهو يخاف أن يموت وتنتصر الدعاوى التي تقلل من شأن عبادة العزى، حينها طمأنه أبو لهب أنها لم تعبد من أجل حياته، ولذلك لن تنتهي بعد مماته، فاطمئن أبو أحيحة لما وجده عند زائره من صلابة وعزيمة قائلا: "الآن علمت أن لي خليفة".  ترصد هذه الرواية التاريخية لابن الكلبي مخاوف الرجل تجاه معبوده من ظهور أحدهم يعيب الأصنام ويصفها بالباطل، في حين كانت تتمتع بمعاملة خاصة، كأن تؤخذ الطريدة التي تقترب من محيط الصنم لصالحه، "فكل ما صار في حوزته يترك له ولا يؤخذ منه"، كما جاء في قصة مالك بن كلثوم، لذا لم يكن العرب على قدم المساواة في تبجيل المعبودات القديمة التي ورثوها، وهناك عوامل كثيرة ساهمت في تغير مواقف بعض الأشخاص تجاه هذه الآلهة.  تشير المرويات إلى أن الحياة الدينية شهدت تنوعًا ملحوظًا، فكان هناك قلة يعرفون بـ"الأحناف" ظلوا متمسكين ببعض الأفكار والمعتقدات التي وصلت إليهم من ديانة أبيهم الأكبر إبراهيم عليه السلام، أشهر هؤلاء: قس بن ساعدة، عامر بن الظرب، هشام بن المغيرة، حرب بن أمية، أمية بن أبي الصلت، عمرو بن زيد بن نفيل، الذي وردت عنه أبيات يقول فيها:  "تركت اللات والعزى جميعا/ كذلك يفعل الرجل البصير / فلا العزى أدين ولا ابنتيها/ ولا صنمي بني عمرو أزور"  ويقصد عمرو في أبياته أنه من الحكمة والبصيرة أن يترك الرجل عبادة اللات والعزى والأصنام كافة.يسرد كتاب الأصنام قصة إساف ونائلة، وهي في حقيقتها استهانة بالغة بنظرة العربي للإله، قيل عنهما إنهما رجل وامرأة من اليمن، قدما للحج، وفي غفلة من الناس، فجر إساف بنائله، فمسخهما الله حجرين، فكان أحدهما لصق الكعبة والآخر عند زمزم، فجمعتهما العرب عند زمزم ينحرون ويذبحون عندها. نحن لا نأمن أن يكون ابن الكلبي قد نقل حكايات من تأليف القصاص الذين نشطوا في فترة مبكرة في صدر الإسلام، فهل العربي الذي اتصف بتبجيله لهذه الأصنام كان يؤمن أن صنمي إساف ونائلة كانا لرجل وامرأة يتعشقان في الحرم؟ إذن لماذا رُفعا لمكانة الآلهة وقد كان مسخهما إلى أحجار دليل عقوبة؟ وكان نحت الأصنام قديمًا دليل تبجيل واحترام؟ في مروية تعود لعقود طويلة قبل الإسلام، يمنع الإله الناس من فعل شيء فيتساءلون: ماذا لو كان الإله له نفس المطلب؟ هل يمنع نفسه؟ فقد جاء رجل إلى صنم ذي الخلصة – وهو حجارة بيضاء منقوش عليها هيئة التاج بين مكة واليمن - يستشيره في الأخذ بثأر أبيه، فمارس طقس الاستقسام بالأزلام – سهام مكتوب عليها افعل ولا تفعل - ففي كل مرة يختار السهم يخرج له "لا تفعل"، عرف الرجل أن ذا الخلصة ينهاه عن الثأر، فقال منشدا:  "لو كنت يا ذا الخلص الموتورا/ مثلي وكان شيخك المقبورا/ لم تنه عن قتل العُداة زورا".  هذا الرجل تعجب من موقف إلهه قائلا: إن الإله لو كان صاحب الثأر لما نهى عن قتل المعتدين واصفًا فعل الإله بـ"الزور". القصة ترويها بعض المصادر منسوبة إلى الشاعر الجاهلي امرئ القيس، أراد أن يثأر لمقتل أبيه من بني أسد، وذهب ليضرب الأقداح، ويستشير الآلهة وعندما جاءت النتيجة عكس ما يحب، وبَّخ الإله، وكسر القداح، وضرب بها وجهه، قائلا: "عضضت بأير أبيك، لو كان أبوك قتل ما عوقتني" ثم غزا بني أسد فظفر بهم، فقيل إن امرؤ القيس أول من أخفر الإله. تقع بعض المواقف الفجائية في حضرة الآلهة، فيتمادى العربي ساخرا من ذلك الإله الذي عبثت به الطبيعة، فبالت على رأسه الحيوانات الضالة مثلا، أو خافت منه الإبل، وقد حدث مع رجل أقبل ومعه الإبل على صنم لبني كنانة اسمه سعد – وهو صخرة طويلة يهرق عليها الدم - فنفرت الإبل وتفرقت في كل وجه، فقال له: "لا بارك الله فيك إلها، أنفرت علي إبلي" وأنشد يقول:  "أتينا إلى سعد ليجمع شملنا/ فشتتنا سعد فلا نحن من سَعِدْ/ وهل سعد إلا صخرة بتنوفة / من الأرض لا يدعى الغي ولا رُشِدْ".  أبيات هذا الرجل توجه انتقادا لاذعًا لـ"سعد" فهو الذي تسبب في تشتيت الإبل، وجلب لصاحبها الحزن، وفي النهاية ما هو إلا صخرة في الصحراء لا تفيدنا غيًا ولا رشدا.  بينما هربت ناقة جعفر بن أبي خلاس من صنم يقال له "سُعَير"، أما صنم "سواع" فقد بالت على رأسه الثعالب، فقالوا: "إله يبول الثعلبان برأسه/ لقد ذل من بالت عليه الثعالب"، وفق ما أورده الجاحظ في كتابه "الحيوان".يكمن السبب أحيانًا في رغبة الشخص في الاستحواذ على ما يملك الإله، فمثلا مالك بن حارثة الأجدري، يحكي أنه شاهد صنما يقال له "ود"، ويصفه بأنه تمثال في هيئة رجل كأعظم ما يكون من الرجال، يرتدي ثوبا له بطانة ومكون من قطعتين، الأولى قميص، والثانية إزار، وضع على منكبه القوس، وبين يديه حربة وجعبة فيها نبال، فهو إله يحمل صفات الفارس، متوثب للقتال، مستعد للنزال، لكنه رغم هيئته المخيفة تلك لم يردع الصبي مالك الذي يستولى على اللبن الذي يقدمه أبوه كقربان للإله، فيقول: "كان أبي يبعثني باللبن إليه، فيقول اسقه إلهك. فأشربه". وقد عاش حتى دخل الإسلام، فروى أنه رأى خالد بن الوليد قد حطم الصنم وجعله جذاذا. التمرد الأكبر على أصنام العرب كان عندما ظهر محمد بن عبدالله يدعو الناس لعبادة إله واحد لا تدركه الأبصار، وظل يعيب الأصنام ويصفها بـ"الباطل".  تعددت أسباب ذلك التمرد على الأصنام لكنها في النهاية تشير إلى أن بعض العرب تمتعوا بقدرات عقلية تتسم بالحكمة، حيث شكل موقفهم سؤلا حول دور الإله ومكانته وسلطانه، لكن انغلاق الجزيرة حرمها من قيام مذاهب وتيارات فكرية مثلما حدث بعد ظهور الإسلام، فهو بدوره فتح آفاقًا جديدة لهم عندما خرجوا من الصحراء إلى حضارات مجاورة كالفرس والروم والمصريين. لفتت الكتابات إلى أن الجدل حول الإله لم يتوقف حتى بعد تقديم النبي صورة مغايرة، ويبدو أنه عدَّ ذلك الجدل نوعًا من "تعطيل الرسالة"، حيث لجأ إلى تخويف هؤلاء المجادلين، ووفق ما يقوله الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية": إن طائفة ظهرت تجادل في ذات الله تعالى "تفكرا في جلاله وتصرفا في أفعاله حتى منعهم النبي وخوفهم بقوله تعالى "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال"، حيث جاء النهي  لأن الخوض فيه مضلة للأفهام ومزلة للأقدام وحيرة للعقول". وفي عصر الراشدين استمر النقاش حول طروحات الدين الجديد فيما عرف بـ"الكلام في القدر"، وأشارت بعض المدونات الإسلامية إلى دور معبد الجهني كأول من تزعم ذلك الجدل في العصر المبكر، ثم تعددت الموضوعات المتعلقة بمسئولية الإنسان والإله حول ما يقع من انقسامات، وحول الجبر والحرية، وارتكاب الكبيرة، وقتها تمكن العربي من بلورة أفكاره وفلسفته الخاصة بالإله في عدة مدارس كانت المعتزلة أبرزها ومن بعدها الأشاعرة والماتريدية، فكلها مدارس أخذت حظها من التكوين والتوسع في العصور التالية.  

مشاركة :