خلق لا ينبغي أن يفارق المسلم أبداً، لأن غيابه أو اختفاءه من شخص يجلب له غضب الله وسخط الناس، فالاعتراف بالجميل وتقديم الشكر لمن يستحق الشكر سلوك راقٍ ومهذب، يؤكد سمو نفس من يلتزم به ويحرص عليه، أما إنكار الجميل وجحود المعروف فهو يعبر عن سوء خلق من يفعله. لذلك كان اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضيلة الشكر والاعتراف بالجميل، وهو الذي رفع شعار: من لا يشكر الناس لا يشكر الله لكي يؤكد ضرورة أن يتخلق المسلم بهذه الفضيلة الأخلاقية، وقال عليه الصلاة والسلام: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال لنعمة إذا شكرت، ولا دوام لها إذا كفرت. معنى (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، أن من كان من طبيعته وخلقه عدم شكر الناس على معروفهم وإحسانهم إليه، فإنه لا يشكر خالقه بسبب سوء تفكيره وبسبب جفائه وغلظة قلبه. لذلك ينبغي على المؤمن أن يشكر على المعروف من أحسن إليه من أقارب وغيرهم، كما يجب عليه شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه الكثيرة والوفيرة على الإنسان، فالله عز وجل يحب من عباده أن يشكروا من أحسن إليهم، وأن يقابلوا المعروف بالمعروف، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه؛ ولهذا يستحب للمسلم أن يدعو لمن دعا له، وأن يقابل من أحسن إليه بالإحسان، وأن يثني عليه خيراً في مقابل إحسانه إليه، وبذل المعروف له، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال. وفي ترسيخ هذا الخلق الكريم وإشاعته بين المسلمين وترغيبهم فيه، حرص نبوي كريم على بناء الشخصية السوية التي تتعامل مع الآخرين بأدب، وتعترف بفضل أصحاب الفضل، الأمر الذي يضفي احتراماً متبادلاً بين الناس، ويشجع على التعاون والتواصل والتكافل بينهم، فكثير من الناس يفعلون المعروف ويبادرون بعمل الخير ولا ينتظرون من وراء ذلك سوى نظرة رضا أو كلمة طيبة تريح فاعل المعروف وتجسد رضا من يقولها على ما قدم له من خير. يقول العالم الأزهري د. أحمد معبد، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: الشكر من الأخلاق الرفيعة التي ينبغي أن يتخلق بها كل مسلم، ويحرص عليها كل إنسان سوي مستقر النفس وفاء لحق الله عز وجل، واعترافاً بفضل أصحاب الفضل من الناس، وهو مجازاة أو مكافأة على المعروف، وثناء جميل على من يقدم الخير والإحسان، وكل هذا من شأنه أن يحسن من علاقات الناس ويضاعف من عمل الخير بينهم، وليس هناك أقل في الجزاء على المعروف من الاعتراف بالفضل لأهل الفضل، والثناء على محسن إلينا بشكره أو ذكر إحسانه، فهذا ما علمنا إياه نبينا صلى الله عليه وسلم. والشكر هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه، ولذلك قيل إنه أبلغ من الحمد، لأن الحمد لا يقتضي الامتلاء، والشكر على ثلاثة أنواع أو درجات: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على المنعم، وشكر بسائر الجوارح وهو مكافأته بقدر استحقاقه. شكر الخالق وأول ما ينبغي أن يقدم المسلم له الشكر هو الخالق سبحانه فنعمه على الإنسان لا تحصى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. وقد قال بعض العلماء: كل نعمة يمكن شكرها إلّا نعم الله على الإنسان، فإن شكر نعمائه على الإنسان نعمة من الله.. ولذلك روي أن سيدنا موسى عليه السلام قال: اللهم أمرتني بالشكر على نعمتك، وشكري إياك نعمة من نعمك. وقد تجسد الشكر بكل معانيه في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقوم الليل ويصلي حتى تتشقق قدماه من طول الصلاة والقيام، فتقول له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: ألا أكون عبداً شكوراً. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. إذن نحن مطالبون كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نشكر الله، فشكر الله واجب كما نصت على ذلك نصوص قرآنية كثيرة، وقد وعد الخالق بجزاء من يشكره، فقال سبحانه: وسنجزي الشاكرين. ويتحقق شكر الله بالاعتراف بالنعم وأما بنعمة ربك فحدث، فالتحدث بنعم الله كما أخبرنا رسولنا الكريم شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.. كما قال صلى الله عليه وسلم: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها.. كما علمنا صلى الله عليه وسلم أن نسجد لله سجدة شكر إذا ما حدث لنا شيء يسر، أو إذا عافانا سبحانه وتعالى من البلاء.. قال عمر بن عبدالعزيز عن الشكر: تذكروا النعم فإن ذكرها شكر. الإحسان إلى الوالدين والمسلم مطالب شرعاً بعد شكر الله عز وجل على نعمه الكثيرة والوفيرة بشكر الوالدين، حيث قرن الله عز وجل في القرآن الكريم الشكر له بالشكر للوالدين في قوله تعالى: أن اشكر لي ولوالديك إلىّ المصير، فالمسلم يقدم شكره لوالديه بطاعتهما، وبرهما، والإحسان إليهما، والحرص على مرضاتهما، وعدم إغضابهما. إن أبسط صور شكر الوالدين هو البر بهما والإحسان إليهما ورد الجميل إليهما بكلمات رقيقة، ورعاية دائمة، وعطف وحنان ورحمة، تُكسب كل ابن ذكراً كان أو أنثى حب الآخرين وتقديرهم واحترامهم. لكن كما يجحد الإنسان فضل الله عليه، ولا يقدم له الشكر الواجب وقليل من عبادي الشكور يجحد فضل والديه فيكون فتور العلاقة.. والأصعب أن يكون الجحود والعقوق هو رد الفعل من كثير من الأبناء تجاه آبائهم الذين تحملوا كل المشاق من أجلهم، وسهروا على راحتهم، وأفنوا حياتهم من أجل توفير مقومات الحياة الكريمة لهم. تقول الفقيهة الأزهرية د. عبلة الكحلاوي: أبشع ما نراه في سلوك الأبناء هو الجحود ونكران الجميل، حيث تتحجر قلوب بعض الأبناء، فيكون التمرد على آبائهم، فهم لا ينكرون فضلهم فقط، بل هم للأسف يسيئون إليهم بأقوال وأفعال وإهمال وعصيان وتمرد يجلب لهم غضب الله وعقابه في الدنيا والآخرة. وتضيف: عدم الاعتراف بفضل الوالدين عقوق وجحود ابتلى به كثير من الأبناء، فالعقوق منتهى الخسة والنذالة، والإنسان الخسيس نادراً ما يعترف بجميل أحد، ونادراً ما يوجه الشكر لأصحاب الفضل عليه، بل هو لا يشكر خالقه، فما بالنا بالمخلوقين؟! ولأن العقاب الإلهي للعاقين رادع وحاسم، فإن العالمة الأزهرية تحذر الأبناء من التمادي في خسة العقوق، وتقول: عذاب الله وعقابه الشديد ينتظر هؤلاء الأبناء الجاحدين لفضل من أحسن إليهم، وسيشربون من كأس الجحود والعقوق الذي شرب منه آباؤهم، وذلك إعمالاً لمنهج الحق جل وعلا، فلابد للابن أن يتذوق من كأس سبق أن أشرب منها والديه ليهتف الابن قائلا: آمنت بالله. وهنا تؤكد العالمة الأزهرية ضرورة أن يسارع الأبناء العاقون بتوبة صادقة، مؤكدة أن باب التوبة والندم على خسيسة العقوق مفتوح لكل الأبناء، فالخالق رحيم بكل من يراجع نفسه ويتوب توبة نصوحاً، والتوبة هنا تتطلب أن يحسن الابن إلى والديه أو يطوف على ما تبقى من أرحامه، راغباً في الإحسان إليهم، واقفاً في ساحة الخيرات، داعياً لهما، راغباً رضا روحيهما، فيتوب الله عليه، ويرفع عنه عقابه، ويعفيه من العذاب الأليم الذي قدره الخالق بعدله لكل ابن يعوق والديه. تقدير المعروف وبعد شكر الله وشكر الوالدين بطاعتهما والبر بهما والإحسان إليهما يأتي شكر الناس، وهو فضيلة مطالب بها المسلم، فالإنسان السوي كما يقول الشيخ خالد الجندي الداعية الأزهري يقدر المعروف، ويعرف للناس حقوقهم، فيشكرهم على ما قدموا له من خير، ولذلك يقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في رواية لأحمد: إن أشكر الناس لله أشكرهم للناس. وقد حثنا صلى الله عليه وسلم على أن نقدم الشكر لكل من صنع لنا معروفاً بأن نقول له: (جزاك الله خيراً)، وذلك في الحديث الشريف الذي يقول: من صُنع إليه معروف، فقال لفاعله جزاك الله خيراً، فقد بلغ في الثناء. ولفضيلة الشكر كما يقول الشيخ الجندي ثمار كثيرة، فمن يقوم بواجب الحمد والشكر لله يضمن المزيد من النعم في الدنيا، والمكافآت الإلهية في الآخرة، فضلاً عن أنه يأمن عذاب الله وعقابه، حيث يقول سبحانه: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً. يقول الداعية الأزهري: المسلم الحق شاكر لربه طوال الوقت، في صلاته يشكر، عند تناول طعامه يشكر، في السراء والضراء ليس أمامه إلّا الرضا بما قدره الله والشكر على النعم والصبر على البلاء والمحن. قيمة عظيمة ولا يليق بالمسلم الذي تخلق بأخلاق الإسلام أن يكون جاحداً لنعم الله الكثيرة والوفيرة عليه، أو منكراً لفضل الوالدين اللذين جعلهما الله سبباً في وجوده، أو لفضل أصحاب الفضل من الناس. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ربط بين شكر الناس وشكر الله من خلال قوله الشريف: من لا يشكر الناس لا يشكر الله، فهذا يؤكد أن قيمة الشكر لها منزلة كبيرة وأهمية بالغة لدرجة أنها إذا لم تتحقق في علاقات الناس بعضهم مع بعض فإنها بالتالي لا تتحقق في علاقة الإنسان بالله، وهذا الربط بين الموقفين شكر الناس وشكر الله يحتاج هنا إلى وقفة نتأمل فيها هذه القيمة المهمة ودورها في حياة الناس. يقول المفكر الإسلامي د. محمود حمدي زقزوق عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: المؤسف أن هناك كثيرين لا يأبهون بهذه القيمة ولا بغيرها من قيم وأخلاقيات الإسلام وهذا سر فساد العلاقة بين الناس، وإذا أردنا دعم العلاقة بين الناس، وإذا أردنا دعم العلاقات الاجتماعية وتحسين علاقة الناس ببعضهم البعض وتقوية الروابط الاجتماعية والإنسانية بينهم فإن سبيلنا لتحقيق ذلك هو القيم والأخلاقيات الإسلامية، فبالرحمة والرأفة والحلم والعدل والإحسان تقوى العلاقات بين الناس، وبالشكر الذي هو مقياس الأدب والأخلاق يتضاعف التقدير والاحترام بين الناس، ويقبل كل إنسان على تقديم المعروف والإحسان إلى الآخرين من دون أن ينتظر منهم شكراً أو اعترافاً بالجميل. والشكر فضيلة تجلب لصاحبها كثيراً من المنافع ومزيداً من التقدير والاحترام، وهي لا تكلفه شيئاً سوى كلمة طيبة، لكن لها أثرها العميق في النفوس. ما أحوجنا إلى أن نتخلق بهذا الخلق العظيم فنشكر الله على أنعمه كما نشكر الوالدين على ما قدما لنا من عطاء لا ينضب أبداً.. ثم نقدم الشكر والعرفان لكل من أحسن إلينا، أو قدم لنا معروفاً، فالاعتراف بالجميل وبفضل الوالدين واجب إسلامي.
مشاركة :