هل يحقق مستقبل الذكاء الاصطناعي سعادة البشر أم يتسبب في فنائهم؟ هل يصبح أكثر ذكاءً من البشر ويفوق قدراتهم أم سيظل تحت سيطرة الإنسان؟ هل فعلا "سيدمر البشر" مثلما صرحت الروبوت الشهير صوفيا وأعلنت عن رغبتها في ذلك أم سيحقق رفاهيتهم وسعادتهم المنشودة؟ وهل ما صرح به أيلون ماسك ـ رجل الأعمال والتكنولوجيا ـ بأن تطوير الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى نشوب حرب عالمية جديدة، أو أنه سيؤدي إلى تدمير الجنس البشري كما رأى عالم الفيزياء الكبيرستيفن هوكينج؟ أم أن نظرتهم تشاؤمية وأن الذكاء الاصطناعي سوف يحسّن حياة الأفراد ويجعلها أكثر سهولة، على حد قول "مارك زوكربيرج" ـ رئيس موقع فيس بوك ـ وأن كل من يخشى الذكاء الاصطناعي فهو "يأسف على الوهم ويغالط البشر" كما صرح الملياردير الأميركي مارك أندرسون، وأخيرا هل فعلاً الذكاء الاصطناعي بهذا القدر من الأهمية أم أن الأمر مبالغ فيه بدرجة كبيرة ولا يعدو كونه مجرد آلات تساعد في تيسير الحياة البشرية، وأن هذه الأفكار الجامحة ما هي إلا أحد أشكال الخيال العلمي الذي تروج له الأفلام والروايات؟ هذه التساؤلات وغيرها مما يرتبط بالذكاء الاصطناعي يطرحها د.إيهاب خليفة، حاصل على دكتوراة في مجال المدن الذكية، ورئيس وحدة متابعة التطورات التكنولوجية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بأبوظبي، في كتابه الجديد "الذكاء الاصطناعي.. مستقبل الحياة البشرية في ظل التطورات التكنولوجية" حيث يناقش المقصود بالذكاء الاصطناعي من حيث التعريف والنماذج ومراحل التطور والاستخدامات المتعددة، وكيف ستكون شكل الحياة البشرية في ظل سطوة نظم الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية متمثلة في نموذج المدن الذكية، ومع انتشار نماذج متعددة ومختلفة من هذه المدن القائمة على التقنيات الذكية فسوف تنتقل البشرية كلها إلى مرحلة جديدة من التاريخ، تلك المرحلة التي يناقشها من خلال تتبع ملامح مجتمع ما بعد المعلومات وتغير عناصر وموازين القوى فيه. بداية يؤكد خليفة أن أهمية الذكاء الاصطناعي تتعدى كثيراً فكرة الإنسان الآلي أو الروبوت الذي يعمل ويفكر ويشعر كالبشر، أو الذي يفوق البشر مهارةً وذكاء، للدرجة التي جعلت البعض ينادي بتطوير قدرات البشر عبر ذرع شرائح ذكية في أدمغتهم لكي تجاري قدرات الذكاء الاصطناعي فيصبح مع الوقت إنسان نصف آلي، إن حقيقة الأمر تتعلق بمنظومة قيمية واخلاقية وقانونية شاملة تحكم تفاعلات الحياة الإنسانية الجديدة، تلك الحياة التي تجمع في شقيها الإنسان الآلي والإنسان البشري الذي قد يكون اقصى هدفه في المستقبل أن يتحول إلى "إنسان آلي كامل"، بدلاً من أن يكون "نصف بشري" بفعل ثورة صناعة الذكاء. وفي تعبير له قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن من سيقود "الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم،" ومن ناحيته وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراراً تنفيذياً يطلب من الوكالات الاتحادية تخصيص مزيد من الموارد للبحث في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وتمتلك الصين استراتيجية طموحة للهيمنة على هذا المجال. ويرى أنه مع انتشار التكنولوجية المتقدمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي داخل المجتمعات، وتوجه الدول لتبني نماذج الحكومات الذكية، ظهر توجه آخر أكثر ذكاءً، قائم على إنشاء "مدن ذكية"، قادرة على استيعاب ملايين من الأفراد، تتميز بكونها تعتمد بصورة رئيسية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لإدارة كل متطلبات الحياة اليومية فيها، فالمنازل التي يسكنها الأفراد، والبنية التحتية وأنظمة النقل والاتصالات والخدمات الحكومية والتجارية والصناعية وكافة القطاعات بهذه المدن تديرها نظم ذكية تعتمد على الذكاء الصناعي وانترنت الأشياء لتسيير الحياة بها، ويحدث بداخلها أنماط مختلفة من "التفاعلات الذكية" بين البشر وبعضهم البعض، وبين البشر والآلات، وبين الآلات وبعضها، ينتج عن هذه التفاعلات مليارات من التيرابايتس من البيانات المتولدة يومياً عنها، وتكون محصلة تحليل هذه البيانات قرارات وسياسات تساعد في تحسين نمط الحياة داخل هذه المدينة الذكية. ويشير خليفة إلى أن العالم على أعتاب ثورة جديدة ستغير شكل الحياة البشرية يقودها الذكاء الاصطناعي، وهي ثورة شاملة على مختلف المستويات، الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وذلك لأن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تتعدد وتتزايد بصورة يصعب حصرها، فهي تقريباً تدخل في المجالات الإنسانية كافة، وحتى اللحظة لم يتم وضع تصور أو تقييم موضوعي لتداعيات هذه تطبيقات، خاصة مع انقسام هذه التطبيقات ما بين تطبيقات مدنية وأخرى عسكرية، واختلاف تداعياتها في كل منها، بل يمكن القول إن بعض التطبيقات المدنية للذكاء الاصطناعي، والتي من المفترض أن تجعل حياة الأفراد أسهل وأسرع مثل نمط المدن الذكية الذي يجمع كافة التقنيات الخاصة بنظم الذكاء الاصطناعي، قد تكون سبباً في زيادة سطوة الألات على الحياة البشرية. ومن هنا يمكن القول إن العالم على أعتاب مرحلة جديدة من التاريخ البشري، ينتقل فيها من مرحلة مجتمع المعلومات إلى مجتمع ما بعد المعلومات، أو مجتمع الذكاء الفائق، أو مجتمع هيمنة الآلات، أو مجتمع الذكاء الاصطناعي، جميعها مسميات تحاول وصف ما سيكون عليه شكل الحياة البشرية خلال السنوات القليلة القادمة، وذلك على الرغم من صعوبة التنبؤ بما ستكون عليه. ويوضح أن هذا المجتمع الخامس Fifth Society، أو "مجتمع ما بعد المعلومات"، يأتي بعد أربعة أجيال رئيسية مرت بها الإنسانية، وهي: مجتمعات الصيد والزراعة والصناعة والمعلومات، وأخيراً المجتمع الخامس أو "مجتمع ما بعد المعلومات"، ويمكن تعريفه بأنه "ذلك المجتمع الذي تتحول فيه المعلومة إلى وظيفة في حد ذاتها، حيث تندمج فيه المعلومة والآلة مع عقل الإنسان، وبمجرد أن يفكر الإنسان في الشئ تقوم الآلة بتنفيذه عوضاً عنه، بل قد تقوم الآلة بالفعل بناء على توقعاتها لاحتياجات الإنسان، أي حتى قبل أن يفكر فيها، وذلك من خلال دراستها لسلوكه وقدرتها على التوقع باحتياجاته"، ويُعتبر الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية هي المحرك الرئيسي داخل هذا المجتمع الجديد، مثلما كان الفحم محركاً رئيسياً لمجتمع الصناعة الأولي. ويشير خليفة إلى أن هذا التطور غير المسبوق قد يعيد صياغة العديد من الثوابت والبديهيات، فنجد أن بعض البشر حول العالم سوف يكتفون بالروبوت رفيقاً وزوجاً بدلاً من جنسهم، يشبعون حاجاتهم النفسية والجسدية مع الآلة التي قد يرون فيها مؤنساً وصديقاً جديراً بالرفقة والتضحية أيضاً في تخلٍّ صريح عن الحياة الإنسانية، وقد يبدأ حينها الحديث عن منظومة قيمية حقوقية للروبوت مثل الحق في الجنسية والمواطنة والتقاضي والزواج والتعلم، إلى الحديث عن الحقوق السياسية كالانتخاب أو التمثيل السياسي، ومع تغلغل الروبوت شيئاً شيئاً في أشكال الحياة اليومية كافة ستكون كثير من المفاهيم الراسخة مثل العدالة والمساواة والخصوصية والحرية في حاجة إلى إعادة النظر. ويتابع "هناك العديد من التداعيات المترتبة على زيادة الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، سواء كانت أمنية أو اجتماعية أو اقتصادية أو حتى إنسانية وقانونية. فمن ناحية اقتصادية، فإن الذكاء الاصطناعي سوف يؤثر على حجم ونوعية الوظائف وفرص العمل المتاحة، حيث من المتوقع أن يؤثر الروبوت سلباً على الوظائف في مجال الصناعات التحويلية وصناعة السيارات والأدوات الكهربائية، بالإضافة إلى خدمة العملاء، بينما يؤثر إيجاباً على وظائف أخرى مثل الهندسة الميكانيكية وهندسة الأمن والسلامة وصناعة السوفت وير والبرمجيات والإلكترونيات، الأمر كذلك ينطبق على السيارات ذاتية القيادة والطائرات بدون طيار والطابعات ثلاثية الأبعاد، حيث تهدد وظائف وتنعش وظائف أخرى. ويرى خليفة أنه من المنظور الأمني، فإن أحد التداعيات الخطرة التي تطرحها تقنيات الذكاء الاصطناعي هو تهديدهم لحق البشر في الحياة، ويتضح ذلك في حالة الأنظمة القتالية المستقلة (Lethal Autonomous Weapons) مثل الطائرات بدون طيار التي تحمل أسلحة، أو الروبوتس الموجودة في أرض المعارك للقيام بوظائف محددة، حيث تكمن الخطورة هنا في أن هذه الأجهزة مصممة من أجل التدمير أساساً، فماذا يحدث إذا وقعت في يد الشخص الخطأ، أو تم اختراقها لقصور أو خطأ بشري في إجراءات التأمين والتلاعب بالخوارزميات التي تتحكم فيها، فهنا سوف تكون النتائج كارثية. ويضيف البعض الآخر بعض التداعيات الإنسانية والأخلاقية، فزيادة الاحتكاك مع الآلات، من شأنه أن يفصل الإنسان تدريجياً عن محيطه الطبيعي الاجتماعي البشري، وأن يٌفقد العلاقات البشرية مرونتها التقليدية، ويجعلها أكثر صلابة وجمودا، فتتحول طرق التفكير والتفاعلات البشرية من التعقيد المفيد، إلى التنميط ولو كان منتجاً، ويصبح الهدف من العلاقات الإنسانية مادياً بعد أن كان معنوياً بالأساس. ويقول إنه في ضوء ما سبق، يصبح التساؤل الرئيسي ما هي القواعد الأخلاقية التي تحكم العلاقات بين الإنسان والآلة، وبين الآلة والآلة أيضاً، وما هي المنظومة القيمية أو مجموعة القواعد العليا التي يجب أن تعمل في إطارها هذه العلاقات "البشرية ـ الروبوتية"، كما يثار التساؤل حول الكيفية التي سيتم من خلالها التعامل مع التجاوزات التي تصدر عن الآلات، مثل اعتداء الآلة على الإنسان، كأن تقتل السيارة ذاتية القيادة إنساناً، أو أن يتم توظيف كاميرات المراقبة في انتهاك خصوصية الأفراد، أو أن يتسبب تعليم الآلات في ضمور القدرات البشرية، أو أن تتحكم خوارزميات البحث على الإنترنت في أنماط تفكيرنا وأولوياتنا، أو أن نشهد حالات زواج بين البشر والربوتس. فالذكاء الاصطناعي مصمم للقيام بوظائف مفيدة للبشرية، وسيقوم بها، بغض النظر عن الظروف المحيطة أو المستجدة، فمثلاً إذا قام أحد الأطفال في المنزل بمحاولة إعاقة الروبوت عن القيام بوظائفه في تنظيف المنزل على سبيل الدعابة، فإن الروبوت سيتعامل مع هذا الموقف باعتباره تهديدا يعوقه عن القيام بوظيفته، وقد يتسبب في مقتل هذا الطفل من أجل القيام بوظيفته التي صمم من أجلها، أسئلة وقضايا أخلاقية وفلسفية كثيرة، لا بد من الإجابة عنها أولاً لضمان الحفاظ على هويتنا البشرية. ويخلص خليفة إلى أهمية الاستعداد لمرحلة سيكون فيها الذكاء الاصطناعي هو المسيطر على الحياة الإنسانية، ويجب العمل نحو إنشاء منظومة قانونية وقيمية وأخلاقية ومؤسساتية شاملة تحافظ على حقوق البشر مثلما تحافظ أيضاً على تطوير هذه الصناعة التي ستغير شكل الحياة البشرية، ولكن يجب أن تضمن عدم سيطرة الآلة على الإنسان وأن يظل الإنسان هو المتحكم الرئيسي فيها في مجتمع جديد بدأ يتشكل هو مجتمع ما بعد المعلومات.
مشاركة :