نحن معتادون على المنازعات، لكن أكثرها يتعلق بالفلوس أو المناصب أو الميراث أو الحدود. هناك كثير من الأمور العالقة بين العراقيين والكويتيين، لكنني وجدت تنازعهم على مطرب شيئا يثير العجب. لم أكن أتوقع قط أن يصبح لـ«المزيقجي» كل هذه الأهمية عندنا. الطرفان يتنازعان على هوية الملحن الموسيقي صالح الكويتي. يشير الكويتيون إلى اسمه، ألا يكفي ذلك دليلا لأي كان على حقيقة انتماء الرجل وهويته؟ بيد أن العراقيين يردون على ذلك بأن مجرد التلقيب لا يعني الانتماء، فلا أحد في العراق يعتقد أن الصحافي العراقي الكبير الراحل روفائيل بطي ينتمي إلى البط بناء على اسمه، رغم كثرة طيرانه بين المعارضة والحكومة. كذلك لا أستطيع أن أقول إن جارنا في الأعظمية الأستاذ عبد الستار السماك ينتمي بسبب اسمه إلى فصيلة من فصائل السمك. «الكويتي» مجرد تسمية. فهو قد ولد في العراق، واصطحبه والده التاجر إلى الكويت أثناء ممارسة أعماله التجارية هناك. وما إن شب وكبر حتى رجع مع أسرته إلى البصرة، مسقط رأسه. وهناك التقى بقارئ المقام الشهير محمد القبانجي وسواه من المطربين والموسيقيين العراقيين، وتلقى منهم فنون الغناء والعزف على الكمنجة، قبل تفرغه إلى مهنة التلحين الموسيقي للمطربات العراقيات كسليمة مراد وزكية جورج وغيرهما. ثم انتقل واستقر في بغداد حيث وقع في حب المطربة زكية جورج وكتب لها أغانيها الشهيرة باللهجة البغدادية الأصيلة: «قلبك صخر جلمود ما حن عليّ..».. ألا يكفي ذلك دليلا على هويته العراقية؟ كلا! قال الكويتيون. اسمعوا الكلام الصحيح ولا تنخدعوا بلسان العراقيين، نشأ هذا الرجل في الكويت وتتلمذ فيها وتلقى أول دروسه الموسيقية من مطربين كويتيين وخليجيين. وأغانيه الكويتية والخليجية التي لحنها وعزفها وغناها معروفة وكثيرة. وقضى الرجل كل حياته يحن إلى دولة الكويت ويعتبرها أسعد محطة مر بها في حياته. حسما لهذا النزاع ذهبت لسماع المحاضرة القيمة التي ألقاها الموسيقي والعوّاد أحمد مختار في قاعة المقهى العراقي بلندن. ويعتبر حجة بالنسبة لأغاني صالح الكويتي وفنه وتاريخ حياته. استمتعت بالمحاضرة وبالشواهد الموسيقية الكثيرة التي قدمها. خرجت من القاعة لألاحظ هذا الأمر الطريف في تنازع العراقيين والكويتيين على هوية هذا الموسيقار الكبير صالح الكويتي. فهو في الحقيقة يهودي ورحل مع أسرته وأخيه الموسيقي داود إلى إسرائيل حيث قضى بقية حياته ومات ودفن في ترابها بمقبرة حولون على مسافة قصيرة من القدس. ومعه انقبرت تلك الموهبة الفنية الرائعة التي وهبتنا كل ذلك التراث الغني من الألحان والأغاني الخالدة. وبقي العراقيون والكويتيون يتنازعون على هويته.
مشاركة :