"كنت أدفع سبعين في المائة من مكسبي، لشراء كتب عن الجاسوسية والمخابرات". إعلان صغير شكل نقطة التحول في حياتي". " لكي تكوي بنطالي هذا ما اشترطت أختي أن أفعله". هذه هي الشخصية التي ألهمتني (أدهم صبري). "تأجيل المواجهات هو الخطوة الأولى للفشل"! "لو قبلت العمل مع كل منتج لكنت أصبحت مليارديراً". "هناك من عابوا علي كتابة أدب المغامرات.. لماذا يعتبرون (أجاثا كريستي)، و(أرثر كونان دويل) عظماء!" "لا أنعيك بل أنعي بك ذكريات صباي. أنعي بك خيالاً صنعته حروفك. ودرباً إلى السحاب كانت تعلو به مخيلاتنا حينما كنا نغمض أعيننا لنرسم شخصياتك التي عشعشت في خيالنا حتى ظنناهم أحياء بيننا. أنعي بك جيلاً كانت القراءة فيه احتياجاً، وقائدة للأفكار والمشاعر. أنعيك أستاذاً وأديباً ورائداً لأدب الشباب الذين أصبحوا الآن كباراً بأفكار صنعها أمثالك." تلك كانت واحدة من مقولات الرثاء على موقع (فيسبوك) التي سطرها بعض محبي كاتب الأدب البوليسي والخيال العلمي الشهير د. نبيل فاروق الذي توفي اليوم الخميس 10 ديسمبر 2020م. وقريباً من ذلك وعلى موقع (تويتر) قالت الكاتبة السعودية هبة قاضي: "نشأتُ وكبرتُ أقرأ كتبه. وتمنيت كثيراً وحلمت ونسجت الخطط بأنني سأكتب وأنشر كتاباتي ورواياتي معه يوماً. لا أتذكر مراهقتي إلا وكُتب الجيب جزء كبير منها. رحمه الله فقد ملأت كلماته فراغاتٍ واسعة في جدار مراهقتنا العربية في وقتٍ كانت المحدودية هي شعار المرحلة." كلا المقولتين تمثلان اختصاراً حقيقياً لما يعنيه أن يكون الكاتب جزءاً حقيقياً في وجدان قرائه. هكذا كان د. نبيل فاروق -رحمه الله- وأكثر فلا يمكن أن ينساه على وجه التحديد جيل الثمانينيات والتسعينيات، فأدهم صبري ضابط المخابرات الأسطوري و"نور" وفرقة الخيال العلمي المذهلة كانت نقشاً وإلهاماً لملايين الفتيان والفتيات العرب. تلك اللحظات التي سحبتهم لأجواء التفوق العربي والانتصار الافتراضي المذهل مع حماس لا يمكن وصفه.الموهبة تنتصر في التاسع من فبراير عام 1956م ولد الدكتور نبيل فاروق رمضان في بلدة (طنطا) المصرية. لاحظت أسرته شغفه منذ البدايات بالقراءة فدعمته وشجعته. لم يتوقف عن هوايته فكانت جماعة الصحافة والتصوير والمسرح بعضاً من ذلك في المرحلة الثانوية. الفتى النبيه التحق بكلية الطب وتخرج طبيباً عام 1980م وفي خياله حلم يتوهج خاصة بعد فوزه في الـ23 من عمره بجائزة من قصر ثقافة (طنطا) عن قصة (النبوءة)، والتي كانت القصة الأولى في سلسلة كوكتيل 2000 فيما بعد. مارس د. نبيل الطب وتزوج. وبعدها بدأ يقبل على نهمه الحقيقي فالتقط طرف الخيط من إعلان في عام 1984م لمجلة (عالم الكتب) يطلب كاتبي قصص للخيال العلمي، فأرسل لهم رواية (أشعة الموت)، وفاز بها من بين أكثر من 160 متسابقاً، فنشرت في العام التالي كأول رواية في سلسلة ملف المستقبل الشهيرة. واصل الكاتب اللامع تجسيد موهبته فتفرغ لها كمهنة رسمية بعد نجاحات محفزة ليستقر في القاهرة وليصبح قبل أن يبلغ الـ(50) عاماً من أحد أعظم الموهوبين في كتابة الأدب البوليسي والخيال العالمي، حاصداً الكثير من التقدير مثل الجائزة الأولى في مهرجان ذكرى حرب أكتوبر عن قصة "جاسوس سيناء: أصغر جاسوس في العالم". فيما قام قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة فرجينيا الأمريكية بإنشاء موقع خاص به. مؤلفاته.. سلاسل الإبهار إنتاجية مذهلة للكاتب الكبير. أكثرها شهرة: سلسلة "رجل المستحيل": (160) عدداً. سلسلة "ملف المستقبل" (160) عدداً. سلسلة "الأعداد الخاصة" (28) عدداً. سلسلة (ع × 2) (57) عدداً. سلسلة "زهور" (روايات رومانسية) (30) عدداً. سلسلة "كوكتيل 2000" (51) عدداً. سلسلة "زووم" (11) عدداً. سلسلة "فارس الأندلس" (10) أعداد. سلسلة "روايات عالمية للجيب" (6) أعداد. "أرزاق" رواية اجتماعية (4) أجزاء. سلسلة "أوسكار" شارك في إصدار العدد الأول منها (لعنة التابوت). سلسلة "سيف العدالة" (6) أعداد. سلسلة "المتخصصون" (3) أعداد. سلسلة "مسرح الجريمة" (2) عدداً ن. كتاب "ويأتي الغد". رواية (ظل الأرض). سلسلة "قصص مجانين". شارك في سلسلة فلاش باب "شيء من العلم")، وبعض السلاسل للناشئة مثل: (مغامرات كتاكيتو)، والعميل (صفر صفر صفر) وغيرها. كتاب بعنوان ليه لأ؟ رواية "الثورة" عن دار ليلى شارك في كتاب 7 (وجوه للحب) عن دار ليلى كتاب رجل المستحيل وأنا، عن دار ليلى المسلسل الاذاعي رجل المستحيل العملية شبل. مسلسل العميل 1001 صفحتان شهرياً بمجلة الشباب القومية. مقال أسبوعي بجريدة الدستور. مشاركات متنوعة في مجلات ودوريات عربية مثل "الأسرة العصرية" ومجلة "الشباب" وملحق "صبيان وبنات" الذي يصدر مع صحيفة "أخبار اليوم"، ومجلة "باسم". تتنوع هذه المشاركات ما بين الحلقات المسلسلة لخفايا عالم المخابرات وقصصه الحقيقية، وصولاً إلى المقالات العلمية بشتى مجالاتها.في حروف معاصريه: في نعيها له سطرت الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة المصرية:" فاروق "يمثل علامة بارزة في الكتابة الروائية البوليسية التي تربت عليها أجيال من أبناء مصر والتي ساهمت في تشكيل وعيهم وفكرهم". كلمات الوداع له من رفاق درب ومعاصرين ومعجبين لا يمكن استيفاؤها. يقول الكاتب الصحفي يسري الفخراني: " رحل صاحب الرحلة الإنسانية الخصبة بالمعاني والأفكار والأحلام الوردية، رحل رجل يحمل الكثير من البهجة والعذوبة والأصالة. عليه رحمة الله". هذا فيما اعتبر الروائي السوداني حمور زيادة أن رحيل د. نبيل فاروق يعني أن "يغلق رجل المستحيل الباب خلفه، لتنتهي صفحات ملف المستقبل. ربما لهذا أورثني خبر موت د. نبيل فاروق شعور الطفل الذي وجد نفسه فجأة في الزحام دون أحد من الكبار الذين اعتادوا الاعتناء به. ارقد في سلام يا رفيق صبانا الأول. ولتنزل على قبرك الرحمات".الحقيقة كما يراها: بالنسبة للكاتب الكبير فقد تم استدعاء الكثير من مقولاته لدى محبيه ومنها ما وصف بأنها من أشهر أقواله: "أحياناً تكون الحقيقة هي ما يتمنى المرء ألا يعرفه أبداً».. وقوله: "اللا معقول اليوم قد يصبح مجرد نظرية علمية بسيطة يدرسها الأطفال في المستقبل”. الكاتب الكبير واجه بعض ما آلمه ومنه قوله:"..هناك زملاء يعيبون عليّ لأني مازلت مستمراً في كتابة أدب المغامرات.. وأنا لا أستطيع أن أفهم هذا المنطق، لماذا يعتبرون (أجاثا كريستي)، و(أرثر كونان دويل) عظماء لمجرد كونهم أجانب، وعندما يكتب مصري نفس ما يكتبونه يعتبرونه....! الواقع أننا المسؤولون بالدرجة الأولى والثانية وحتى الأخيرة عن نظرة الغرب السيئة لنا".علاقة الكاتب بشخصياته لم يكن د. نبيل فاروق يتحدث أو يرد على تساؤلات حول كيف تظهر شخصياته أو تتشكل لكنه لاحقاً تحدث عن ذلك بشكل أو بأخر. مثلما كشف عن كيفية تشكل شخصية رجل المستحيل بعدما التقى أحد شخصيات رجال المخابرات. ولم يكشف عن ذلك إلا بعد أكثر من 15 عاماً لسلسلة الأسطورية، فتحدث عن علاقته بشخصية رمز لها السيد (أ.ص)، الشخصية الأسطورية في جهاز المخابرات المصري، حيث رأى فيه البطل الذي كانت تتشكل في خياله (أدهم صبري) في سلسلة رجل المستحيل، والتي أصبحت بعدها الأكثر مبيعاً وألهبت عقول الملايين في كل الخارطة العربية. بل إن الكاتب على ما يبدو حاول وضع نهاية لبطل سلسلته الأشهر. ولكنه عاد لجعله يظهر مرة أخرى. والقصة عندما أصدر الكاتب في أكتوبر 2008 الرواية الأخيرة لسلسلة رجل المستحيل تحت اسم «الوداع» والتي أعتقد فيها القراء أن البطل قتل في انفجار ولكن المؤلف عاد ليذكر في أحد أعداد كوكتيل 2000 أن البطل اتصل على صديق عمره وأخبره أنه بخير هو وعائلته. هكذا يمسك المؤلف القدير بخيوط شخصياته، ويتعاطف من النظرة العربية لشخصية بطلها.كواليس وإحباطات الكاتب الكبير الذي كان يتجنب الرد على أسئلة تتعلق بكيف يكتب اضطر في بعض الأحيان للإجابة. ومن ذلك تجاوبه مع صديق له ليتحدث عن ولادة شخصيته الأسطورية وجوانب كشف عنها لأول مرة في (14) مقالاً ومن ذلك: منذ غادرت عالم الطب، إلى عالم الأدب، اعتدت أن أكتب عن أمور شتى، ليس بينها كتاباتي الشخصية؛ فمن وجهة نظري أنه لا يصح أن يكتب الكاتب عن نفسه، أو عن مؤلفاته وفلسفته. شخصية رجل المستحيل وُلِدَت في أعماقي منذ صباي متأثر بقراءتي عن شخصيات مثل (أرسين لوبين)، و(شيرلوك هولمز)، و(جيمس بوند) وغيرهم. يروي الكاتب كيف رفضت فكرته لأول مرة وبقي يتساءل: لماذا إذن يسمحون لعشرات المترجمات وأفلام السينما العالمية، بتقديم بطولات فردية مثيرة للغاية، مع مبادئ هدامة إلى أقصى حد، وهل البطولة الفردية مقبولة، لو أنها في سبيل الملكة، ومرفوضة إذا ما كانت في سبيل مصر؟!. ثم يروي كيف شاهد إعلاناً الذي يطلب كاتباً لروايات من الخيال العلمي للشباب.. ولتبدأ قصة النجاح بكتابته لرواية في ظل قلة المرضى في عيادته. ثم تجاهلها وأصر صديقاه على المشاركة في المسابقة وسط وصف محبط حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يحصل على أول مبلغ لمقدم عقد في حياته. وكيف في الموعد التالي ومع ضيق الوقت اشترطت عليه أخته ألا تكوي بنطاله إلا إذا ظل ممتناً لها في حال أصبح لاحقاً كاتباً مشهوراً وكتب ذلك. وقد كان.طقوس الكاتب ولأن لكل كاتب طقوسه كما يقولون فقد يبدو الأمر مختلفاً قليلاً لدى د. نبيل فاروق يقول: "لأن تأجيل المواجهات هو الخطوة الأولى للفشل، فقد استعنت بالله، وبدأت أكتب أول قصة، بعنوان (الاختفاء الغامض).. وكما يحدث دوماً، تعثَّر قلمي في البداية، ثم هدأ مع نهاية الفصل الأوَّل، وانطلق كالصاروخ بعدها، حتى نهاية القصة، وهذا ما يواجهني في كل عمل أكتبه، حتى يومنا هذا…قلق، وحذر واستقرار.. ثم انطلاقة، حتى أنني أندهش أحياناً لما كتبته، إذا ما تصادف وراجعته، إذ إنني من المؤمنين تماماً بالتلقائية، وأرفض بشدة تعديل ما انساب من عقلي إلى قلمي، خلال اندفاعة الكتابة وحماستها". ويكشف د. نبيل أحد أهم أسرار ابداعه في الكتابة بقوله: "كنت أدفع سبعين في المائة من مكسبي، لشراء كتب عن الجاسوسية والمخابرات". وفي كثير من الأحيان تقفز فكرة ما في رأسه، فيسارع إلى تدوينها فوراً على ورق أو بتسجيلها على جهاز تسجيل صغير في جيبه.بين حكم المؤلف وسيطرة المنتج وعن موقفه من تحويل مؤلفاته يقول د. نبيل فاروق: "لما تتحول للكتابة للدراما تشعر أنك دخلت في منظومة وكأنك عسكري شطرنج. وكل ما تكتبه مع الوقت يتغير، وأنت تتحاسب عليها في النهاية. وتكون غير راض وهو أمر لم أحبه. وأكتب حاجات بالفعل ولكن لو قبلت عمل مع كل منتج كان زماني بقيت ملياردير. لدينا سينما الآن يحكمها المخرج عكس إبداعات زمان التي كان يحكمها المؤلف”. كان الكاتب الكبير يهوي رياضة تنس الطاولة، كما يشاهد الكثير من الأفلام السينمائية العربية والأجنبية، مفضلاً أفلام الخيال العلمي الراقية وتلك التي تحمل نظرة فلسفية خاصة أو نظرة اجتماعية صادقة. ويروي عنه محبوه ومعايشوه أنه كان شديد التواضع كريماً ومحبوباً. فكان لذلك أثره الكبير في جمهوره الكبيرة. ويمكن الإشارة هنا لبعض أبرز رفاق دربه ومنهم صديقه الراحل د.أحمد خالد توفيق؛ اللذان خرجا سوياً من مدينة طنطا في دلتا مصر؛ والثنائي ينتميان إلى مهنة الطب ونفس مجال الكتابة؛ وكانت بداية حياتهما العملية في العمل كأطباء، قبل أن تقودهما المصادفة لمقابلة الناشر الراحل حمدي مصطفى، رئيس مجلس إدارة المؤسسة العربية الحديثة.
مشاركة :