قرأت قصيدة الشاعر المبدع جاسم الصحيح التي كتبها عمّا ألم به من مرض (شفاه الله وعافاه ) وقد وقر في أعماقي أنها أزمة سيتخطّاها شاعرنا الرقيق الذي عرف بإنسانيّة ظليلة ودماثة وارفة وحس رهيف ، أدركت عمق المعاناة و وقعها على روحه التي منحت كلمته الشاعرة عذوبتها وطيب نشرها وعمق أثرها فجعلتها تترقرق في الوجدان سخيّة رخيّة ،و تذكرت قول الشاعر: أما ترى البدر يعرو جسمه سقم و ينثني بوشاح الحسن مُتّشحا لقد تلألأ جاسم نجما في سماء الشعر العربي لاتخبو له ضياء ، يذكرنا بأولئك الأعلام الذين تفتحت بتلاتهم في حديقة الروح ، وعبقت به بأجواء الكلم الجميل ،وكأني به أبو تمام يشقّ للقصيد طرائق قددا و مناحي شتى ، ويضع بصماته الخاصة علامات عصيّة على التقليد ؛ إن ما يمر به من أزمة صحّية مهما كان وقعها في نفسه لن تنال من عزيمته وكأني به يتمثل قول الشاعر المتنبي : فإن أمرض فما مرض اصطباري وإن أحمم فما حمّ اعتزامي أعود إلى القصيدة ضارعا إلى الله أن يشفيه و أن يعينه فيظل – كما كان دائما – يعطر أجواء الكلمة الشاعرة بعبير المحبة وأدعوه – جلّ وعلا - أن يخفف عنه وطأة المرض ويمن عليه بالبرء منه متمثّلا قول الشاعر: يارحيما بالمؤمنين إذا ما ذهلت عن أبنائها الرحماء يا إلهي و أنت نعم اللّجاء عافنا واشفنا منك الشفاء تتألف القصيدة من أربعة مقاطع تنمو من خلالها القصيدة عبر تمثله للحدث وتصويره له و الحقول الدّلالية التي يدور فيها معجمه وتتنوّع تراكيبه، وقبل هذا وذاك العتبات التي تقودنا إلى استبطان دواخله : الحوار مع الذات والانتقال من الخارج إلى الداخل في حركة تجيش محتفية بالرؤية البصريّة المباشرة للحالة وترجمة وقعها عليه ترجمة مجازيّة بوصفها معركة عليه أن يخوضها ، ثم يعمد إلى استبطان وقعها في نفسه مواجها الواقع الجديد مترجما له راصدا ردّة الفعل في جملة من الصور متخيّلا صراعه مع الموج واستنباته للأمل الذي تتحول بذوره حنظلا في مغالبة يائسة تتضخّم صورتها في نفسه عبر قاموس ينتمي إلى الإحباط في بوح مباشر وصادم ، وأما المقطع الثالث فيتحول فيه الخطاب الشعري ليتقرّى ملامح الحالة متقصّيا مظاهرها الحسيّة ، مقارنا لها بالآلة مستعينا بخبرته في استثمار المدركات في بناء عالمه الشعري ، ومستسلما للقدر مناجيا لله مستعيذا به مستوحيا مفردات الروح وحقل القيم ، و في المقطع الختامي يقديصف عالمه الخاص في معتزل الشفاء وتماسّه مع رموز الوجود وإطلالات الحياة واستشراف الأمل . أبدأ بالعنوان “ مضغة منك خانتك “ يستعيد الشاعر أصل الوجود الإنساني الذي أشار إليه الخالق جل وعلا مستذكرا قوله تعالى: “و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة “ وقد اختار المضغة التي تشكل المرحلة الثالثة من مراحل خلق الإنسان حيث يبدأ الحضور الحقيقي في الرحم ، والشاعر الذي نعرفه بدقة اختياره للألفاظ بوصفها اللبنة الأولى في بناء النص يسترجع هذه المرحلة متأثّرا بما أصاب هذا الجزء من الجسد فيعده من الأسس التي انبنى عليها هذا الجسد ، فاستعماله للمضغة يدل على يقظة حساسيته اللغوية التي هي من أهم السمات التي يتّصف بها ذوقه الفني ، أما الخيانة فهي من أبشع التهم وأكثرها إيذاء فاستعارها ليعبّر بها عن شعوره بأنّه تعرّض لأمر يهزّ كيانه الجسدي في الصميم ؛ وهذا أمر متوقع لدى الصدمة الأولى قبل أن يتأمّل الشاعر في التفاصيل و تتضح له الأمور على حقيقتها ، فمثل هذا المرض أصبح علاجه في متناول الأطباء فكثيرون هم الذين أصابهم مثل ما أصابه و واصلوا حياتهم على نحو طبيعي ، هذا العنوان ينمّ عن حسّ لغوي أصيل ، وهو عتبة تلج بنا إلى أغوار نفسه الشفّافة التي التقطت ذبذبات الألم برادارها الرهيف. تتشكّل بنية القصيدة من سلسلة من المشاهد لا تتعاقب فحسب، بل تتفاعل و تتعالق وتموج بالحركة بين الداخل و الخارج ، بين الذات و الآخر حينا ، وبين الوعي الذي فاجأته الحالة والذات التي تتخاطب معه وتسائله حينا آخر ، وهي تعيد النظر فتلتقط خريطة الموقف الذي استنهضت فيه كل محتوياته وتفاصيله صوتا وصورة و أشياء، بعيون تحدّق في كل ماحولها باحثة عما يمكن أن يجلب السكينة و يهدّيء الروع ،تزداد الموجودات حجما وتتضخم التفاصيل ، ولكن من منظور الصدمة المفاجئة ، و ليس على وجه الحقيقة و اليقين ، يُحدث تحوّلا هائلا في معطيات الصورة فيتحوّل الصوت إلى قنبلة ، ويصبح الحاسوب بشرا ناطقا في حوار مع الطبيب: “رنَّ صوتُ الطبيبِ / كقنبلةٍ في دمي انشطرتْ / واستدار إلى وجهِ حاسوبهِ وانثنَى (يقرأ المقتلا) “ وهو إذ يمتح من الداخل وصفه للمشهد يعود ليصغي إلى صوت الطبيب ويقرأحركاته ويعيد عرضها على مرآته الداخلية ، وهي مرآة محدّبة تتضخّم عبرها الأشياء من منظور نفسي محض ، وانعكاسا لحساسيّة مفرطة يتلقّى بها الشاعر المشهد فيتضخم ويمتد على مساحة واسعة من الشعور، إنه يشيّئ الجوارح وكأنه يتبرّأ منها ، ويكرّر اللازمة (مضغة منك خانتك) وتتحول الظواهر الجسديّة إلى كائنات مستقلة تتصرف بمعزل عن إرادة صاحبها؛ ف(الضغط يحلّق والحرارة تعود إلى منزلها ). ويزداد الإحساس بالزمن ليلقي بظلّه كاملا ليهيمن على المشهد، وكأننا أمام عهدين منفصلين ، وهذا يدخل في إطار المنظار المكبّرالذي ينظر به إلى عناصر الكون و الوجود ، فكما تتضخّم الأشياء و الظواهر و الفضاءات تتحوّل اللحظات إلى عصور فكأنما نحن أمام عصرين مختلفين ، وعالمين منفصلين : الداخل بهواجسه وما يستنبت فيه من أسئلة حائرة ، والخارج وهومصدرالقلق و مبعثه ؛ ولكن الحوار معه يقتصر على التلقي، فهو المؤثر الذي يرسل ولا يستقبل يقتصر على البث فحسب، وهذا ما جعل المشهد التالي يتّكئ على مفردة الحرب فتشكّلت الصورة في ضوئه وتناسلت من رحمها فتحولت كلمات الطبيب إلى قذائف أشعلت الموقف فاشتد الهجوم وبدأ العدو يتسلّل إلى القلاع ، والذات الشاعرة تراهن على الزمن رهانا تراه محدودا في حين يبدو في حقيقته جدارا استناديا : “ ما زال في العُمرِ مُتَّسَعٌ للقتالِ / ولكنَّ (ثغرًا) تَفَتَّحَ فيكَ لغاراتِ هذا الزمانِ / فهَيِّئْ لثغركَ أعتى الحُماةِ/ لكي لا يُباغِتَكَ الغزوُ منهُ / وقاومْ أمامكَ مُعتَرَكًا مُقبِلا “ ولكن الشاعر يرصد ذبذبات الداخل فيحاول في المقطع الثاني من النص أن يصل ما انقطع من حوار مع مركز البث و مصدر القلق و منطلق الهجوم كي يكبح جماح القوة الغازية المندفعة نحو الحصون في كرّ و فرّ ، فيأخذ الحوار شكل الصراع مع الداخل بين الأمل الذي يبثّه الطبيب والمقاومة التي تبديها الهواجس الداخلية التي استنبتتها المفاجأة الصادمة ، وتبدو بواعث القلق و قد تضخمت على الرغم من نموّ تفتح أبواب الأمل ، لكن المنظار الذي يبصر من خلاله الموقف بدا غير قادر على التقاط إشعاعاته ، فقد غامت الرؤية وأصبحت الترجمة المتعجّلة لخطاب المستقبل غير قادرة على استيعاب الضوء الذي يبدّد جحافل الظلام ؛ وبدت الصورة الشعرية تجوس في شعاب الذات وخيالاتها التي تنبثق من مركز الهزّة النفسية التي مازالت تردداتها تفعل فعلها فيضطرب اليقين ويهيمن الشك فتبدو صورة الموج الطاغي بعد مشهد الحرب الضروس ، وصورة التربة التي تحول الغراس فيها إلى حنظل ، واتّشح كل شيء بلون اليأس فتكاثفت الرؤى لتحجب حقيقة الموقف ، وهذه الهواجس ارتدادات نفسية لما أحدثته وقائع المرض من زلزال ، فجاءت القصيدة منبثقة من مركزه راصدة أثره في سياق متّصل ، وبدت المفردات تغادر دلالاتها لتحتشد بما تناثر من شظايا فأصبح الموج يأسا والأمل - رغم حلاوته - مر الطعم: “حالَ ما بيننا الموجُ / موجُ القنوطِ/ وحاولتُ من دونِهِ معزلا / فانثنَى يبذرُ الأملَ المُرَّ في الجرحِ / علَّ الحقيقةَ تقطفُهُ سنبلا” وتخلّت الكلمات عن فعالية الفعل وخصوصيته لتسكن إلى مطلقات الدلالة التي تغيب في سديمها حركة التحول واستشرافات المستقبل في الصيغ الإسمية : الموج والقنوط والجرح و الحقيقة و المعزل ، وتركت ساحة الفعل للحركة الدائرية المعطلة ، فأقفل الشاعرهذا المقطع على صورة مظلمة حيث انبتّت الصلة وأثمرت بذرة الأمل نقيضها مستعيرا لفظة الحنظل بحمولاتها الدلالية منذ العصر الجاهلي حيث ارتبطت بالفراق و مغادرة الظعائن : كأني غداة البين يوم تحملوا لدى سمرات الحي ناقف حنظل فضلا عن المعنى المتداول في البيئات الشعبية وما ارتبط بالحنظل من معنى المعاناة والألم. في المقطع الذي يليه مشهد آخريتمثله الشاعر ليفصح من خلاله عن مشاعره تجاه هذا الغزو الطاريء ، وهو ما عرف في أسلوب الشاعر في العديد من قصائده حيث يعمد إلى أن يستمد مفرداته وآليات الدلالة فيها من الواقع المحسوس و اللغة اليومية المرتبطة بالثقافة الحسية والسلوك العملي : “وثَمَّةَ تُرسانِ في آلةِ العُمرِ قد عُطِّلا / فمنْ يُصلِحُ العَطَلَ الصعبَ؟! / كيما تعودَ / مصافي الحياةِ /لدورتِها في الوريدِ / تعيدُ لطاقتِهِ، المَعمَلا” الربط بين الجسد وما انتاب عضوا منه ، والآلة وما يطرأ عليها من أعطال ويقيم علائق متشابكة بين الجوارح والأجزاء والأحياء موغلا في التقصي إلى أصل الوجود البشري ممثّلا في الطين ؛ ويتشكّل في وجدانه العالم من جديد فيعيد صياغته مستعيرا من منظومة القيم ما يتلاءم مع حدة الصّدمة فينسب الغدر و الخيانة للطين و الأعضاء ، وكذلك الضلال فيقترب من تخوم التجريد متعاليا فوق الجرح، متساميا حيث يلجأ إلى الله ضارعا في نهاية المطاف ملتمسا الخلاص معتذرا للخالق جلّ و علا: “لك الحمدُ يا ربُّ /أهديتَني فشلًا في القِلى / وها إنَّني ما قَلَوْتُكَ فيمنْ قلاكَ /ولابدَّلتني عليكَ المآسي / وقد خابَ من بَدَّلا /وإنْ كنتَ تبلو حقيقتَنا في هواكَ بحَملِ السقامِ / فبعضُ اصطفائِكَ أنْ نُبتلَى” يتصاعد المد النفسي حتى يصل ذروته ويبلغ حدا ينعطف به لائذا بالله فيستروح في ظلال الروح ما يطامن من قلق المصير فيتمترس خلف مبادئه التي آمن بها لائذا بركن شديد “ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد” كما جاء في محكم التنزيل على لسان نبي الله لوط (عليه السلام) حين اشتد به القلق ، لذا استعاذ شاعرنا من (الحب وفشل في المآل و الشعر و فشل في الخيال والروح وفشل في الجمال) عوضا عما ألم به من عطب في الكليتين وهو ما يمكن إصلاحه و التعايش معه ، لقد بلغ هذا الحد الذي يوفر الطمأنينة، ولكن أصداء الصدمة تتردّد في نفسه فيذكر في سرديّة وصفيّة وضعه وصفا واقعيا يشوبه إحساس بما طرأ على حياته من تحوّل وإن كان مؤقتا ، فالنفوس الكبيرة تكبر معها التفاصيل الصغيرة التي يعيد الشعر إنتاجها على نحو يلقي بظلاله في عوالمه الداخلية . في المقطع الثالث الأخير تهدأ العواصف التي اجتاحت عوالم الشاعر ويركن إلى التأمل واصفا حالته و معتزله الذي ترتاده الحياة ممثّلة في أمه الحنون التي تبعث في فضاء روحه الأمل ، ثم الممرضة التي تعالجه ذاكرا تفاصيل الدواء والخادم وما يحتاجه علمه الذي يقابل فيه بين موقعين متناقضين :الطابق العلوي الذي يشده إلى أسفل حيث الشعور باليأس فضاء ماديا وآخر معنويا ، وكالعادة يعمل على تنسيق الأشياء وترتيبها بحسه الشعري فيحيل الأعيان إلى مجردات ، و يحوّل المعاني إلى محسوسات يمزج بين العوالم و يعيد تنظيم عوالمه . يلحّ عليه هاجس المجيء إلى مُعتَزَلِه الذي يخيّم عليه السكون فيبعث فيه الحياة، وكأنما هناك حوار صامت بين الحياة في حركتها الدؤوب و الصمت في سكونه الرهيب ، تقتحم الحياة عالمه فتخترق جدار العزلة ، لذا يتكرّر فعل المضارع (يجيء و تجيء ) ست مرات متتابعة في بداية كلّ جملة ، وباقي الجمل تبدأ بأفعال مضارعة أخرى تكسر الصمت و تقتحم السكون ، ويجمع في فعل المجيء بين (الكائنات الحيّة والمجردات و الأشياء ) في إطار معنى كليّ يتمثل في كلمة( الحياة) و كانه يعتبر مكان وجوده برزخا فاصلا بين عالمين ،إلى أن يؤوب إلى مستقره فتتوهج روحه و يعثر على المعنى الأساس لوجوده وهو الكلمة الشاعرة والقصيدة الفاخرة . ندعو للشاعر المبدع جاسم الصحيح بالشفاء العاجل ليتابع مسيرته الواثقة على دروب الحق و الخير والجمال. «مضغةٌ منكَ خانتكَ» فشلٌ في الكلى هكذا رنَّ صوتُ الطبيبِ كقنبلةٍ في دمي انشطرتْ واستدار إلى وجهِ حاسوبهِ وانثنَى (يقرأ المقتلا) : فشلٌ في الكِلى (ضغطُكَ) الآنَ نسرٌ يحلِّق نحو العُلى و(الحرارةُ) عادتْ إلى بيتِها دون أنْ تُخطِئَ المنزلا ودَمٌ باتَ يعثرُ في نفسهِ كلَّما هرولا مضعةٌ منكَ خانتكَ خانتْ مع الجسدِ الغضِّ عهدَهُما الأَوَّلا مضغةٌ منكَ أو فيلقٌ من فيالقِ جيشِكَ ينهارُ والحربُ لم تكتملْ بعدُ ما زال في العُمرِ مُتَّسَعٌ للقتالِ ولكنَّ (ثغرًا) تَفَتَّحَ فيكَ لغاراتِ هذا الزمانِ فهَيِّئْ لثغركَ أعتى الحُماةِ لكي لا يُباغِتَكَ الغزوُ منهُ وقاومْ أمامكَ مُعتَرَكًا مُقبِلا **’****** فشلٌ في الكِلى قالها هكذا قبل أنْ يبسطَ الأرضَ في قاعِ روحيَ فانْغَرَسَتْ مِعوَلا حالَ ما بيننا الموجُ موجُ القنوطِ وحاولتُ من دونِهِ معزلا فانثنَى يبذرُ الأملَ المُرَّ في الجرحِ علَّ الحقيقةَ تقطفُهُ سنبلا غير أنَّ المرارةَ قد بلغتْ رُشدَها الأكملا والبذورُ اشرأبَّتْ على سُوقِها كلَّما أينعتْ داخلي بذرةٌ أنبتتْ حنظلا فشلٌ في الكِلى وثَمَّةَ تُرسانِ في آلةِ العُمرِ قد عُطِّلا فمنْ يُصلِحُ العَطَلَ الصعبَ؟! كيما تعودَ مصافي الحياةِ لدورتِها في الوريدِ تعيدُ لطاقتِهِ، المَعمَلا أهذا دمي؟! أم دمُ (الأخوَينِ) الذي انشقَّ عن بعضهِ وانتهى هَدَرًا في الفلا؟! تتصارعُ أمشاجيَ الآنَ ما بينها يغدرُ البعضُ بالبعضِ حيث تكونُ الخيانةُ أنكى وحيث يكونُ الأسى أثقلا خللٌ في العناصرِ؟ عيبٌ بماهيَّةِ الخلقِ؟ أم غدرةُ الطينِ بالطينِ؟! إنِّي أؤوِّلُ حَدَّ الضلالِ وكمْ ضَلَّ من أَوَّلا!! لك الحمدُ يا ربُّ أهديتَني فشلًا في القِلى وها إنَّني ما قَلَوْتُكَ فيمنْ قلاكَ ولا بدَّلتني عليكَ المآسي وقد خابَ من بَدَّلا وإنْ كنتَ تبلو حقيقتَنا في هواكَ بحَملِ السقامِ فبعضُ اصطفائِكَ أنْ نُبتلَى غيرَ أنِّي أُعَوِّذُ حُبِّيَ من فشلٍ في المآلِ أعوِّذ شعريَ من فشلٍ في الخيالِ أعوِّذ روحيَ من فشلٍ في الجمالِ أعوِّذ عمريَ من فشلٍ في الظلالِ إذا كانَ لا بدَّ أنْ أفشلا ****** فشلٌ في الكلى وأنا الآنَ في عزلتي إنَّما لم أكنْ أعزلا معي صوتُ أمي يزمِّلني في سكينتهِ كلَّما بسملا غرفةٌ في أعالي الطوابقِ لكنَّها غرفةٌ من سكونٍ عميقٍ يسافرُ بي أسفلا سُكوتي القبوريُّ يحضنُني كالسريرِ وفيما تجيءُ الحياةُ مُكمَّمةً تطرقُ البابَ حينًا وحينًا تُباغتُني مدخلا تجيء الحياةُ تدافعُ عن نفسها من خلاليَ تنقذُ ما ظَلَّ منها لديَّ وتفتحُني أملا وأرصدُ إيقاعَها حول قبريَ.. كان بطيئًا ومستعجلا!! تجيءُ الحياةُ مُمرِّضةً تتفحَّص رقمَ (السوار) على ساعدي كي تؤكِّدني في أنايَ.. تجيءُ على شكلِ عاملةٍ للنظافةِ أو وجبةٍ للطعامِ.. تجيءُ هواجسَ ضدَّ المنامِ.. تجيء المُخَدِّرَ في إبرة (الكورتيزونَ) .. تجيءُ جهازَينِ للضغط والسكريِّ.. تجيءُ الحياةُ على ألفِ وجهٍ تُتِمُّ مُهِمَّتَها في المكانِ، وتتركُني مُهمَلا تجيءُ الحياةُ مجيءَ القصيدةِ لا شَبَحًا مُطلَقًا في الفضاءِ ولا مَلَكًا مُرسَلا وبين المجيئَينِ يلتبسُ الدربُ حيث الحياةُ يقابلُني وحيُها صاعدًا والقصيدةُ يهبطُ لي وحيُها مُنزَلا وفي داخلي يلتقي الوحيُ بالوحيِ يندلعُ البرقُ في البرقِ أذكو وأذكو وأذكو فأسطعُ في لغتي صاعقًا مُذهِلا هكذا أتسامى على حاجز الوقتِ حيث الحياةُ تُسَجِّلُني حاضرًا والقصيدةُ مستقبلا جاسم الصحيح أكتوبر 2020 م مستشفى أرامكو في الظهران
مشاركة :