تلصص على التلصص لصنع الله إبراهيم؟!

  • 12/12/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

«أعترف بأني شديد الضعف تجاه المواهب، وليس أسهل من الكتابة وسيلة تخدعك عن الموهبة، والكتابة موهبة كل الناس، مثلها مثل الكلام، ولكن قليلون أولئك الذين باستطاعتهم أن يخلقوا من الكلام فناً». ( يوسف إدريس) ما يلفت الانتباه في الميدان الثقافي العالمي أن فنا كتابيا يدخل بقوة في سباق التنافس بين الرواية والسيرة الذاتية، وهو يتمثل في تأليف (الكتب عن الكتب)، وهذه المؤلفات تجيء بأشكال مختلفة حسب اللياقة التي يتميز بها كاتب عن آخر في قطع مسافات والاستيلاء على مساحات في المسارح الثقافية، فتكون بعضها في روايات كرباعية (برشلونة/ مقبرة الكتب) لـ/كارلس زافون‘، أو رواية (مكتبة الأعشاب) لـ/ إيريك دو كيرميل، أوبطريقة تفصيلية للتعامل مع الكتب قراءة وتأليفا ونقدا، وملحوظات على كتب وكتّاب، وما يكون من هوامش على كتب سلبا أو إيجابا، كما في (من كتبي/ اعترافات قارئة عادية) لـ/ آن فاديمان، أما الكتب التي تعرض الكتب في قراءات تشجع وتوجه إلى القراءة، فقد فاقت في تعدادها النوعية الكتابية التي ذكرت. وفيما سأكتبه ما يتماهى مع الكتابات عن الكتب كعرض لموضعة كنت لاحظتها، واستنتجت منها ما كوّن رأيي الخاص في رواية (التلصص) للروائي صنع الله إبراهيم، وبعملية تلصص عليه في الطريقة التي اتبعها في هذه الرواية، ولا أقول كل ما تلصص عليه من خلال شخصية الرواية الرئيسة المتمثلة في (طفل صغير/ هو الراوي)، فهو مكشوف في تلصصه، غالبا ما ينكشف أمره مهما حاول أن يكون شبيها بالرجل الخفي محاولا الامتصاص مما قرأه في كتاب (شمس المعارف). عندما قرأ هذا الكتاب الذي يستخدمه المشعوذون والدجالون، وردد بعض العبارات التي استقاها منه عندما أراد أن يخدع أباه ويتلصص عليه في أحد المواقف التي شك فيها في أمر والده تجاه المدبرة المنزلية، عندما طلب منه أن يذهب ويأتي بالفول والرغيف، وإحساسه أن هناك ما يدفعه إلى أن يحتال ويستعين بما اعتقد أنه سيمكنه من الاختفاء، وأنه إذا نفَّذ ما في هذه الكلمات: «تأخذ جلد بومة وتدبغه بالحناء والشّب، وتكتب عليه حرف الألف وارسم معه الاسم والإضمار أو عرقية.. والبسها». يلجأ إلى ذلك لكي يعرف ما حدث صباحا عنما فتح الصغير الباب لفاطمة مدبرة المنزل: (أنتم لسه نايمين -الطفل وأبوه الأرمل؟ - هحضّر الفطار، ينطر أبي إلى فاطمة محدقاً في ملامحها وهو فوق سريره، تسأله تحبوا تفطروا إيه؟ يقول: مفيش حاجة في البراد، والنهار ده جمعة، وانت خد نص فرنك وروح هات السرجة، ما تبعتش فاطمة.. أتناول الطبق ويغلق أبي باب الغرفة، أفتح باب الشقة وأغلقه.. أسرع بالاختباء تحت المائدة، أبتعد ناحية باب المنور كي لا تكشفني حواف المفرش.. أقترب مرهفا سمعي وضوء المصباح يعم الغرفة أدخل بهدوء، أنكمش بين بزة أبي ومنشفته.. أسمع حركة على السرير وصوت ضحكات هامسة» وعندما سمع صوت الباب خرجت فاطمة من الغرفة، وقدمت طبق فول مدمس بعد أن قال لأبيه اليوم جمعة السرجة مسكّرة). عادة المتابعة والتلصص هي عادة الصغير في مواقف كثيرة خاصة على والده الذي يصطحبه معه دائما حيث ليس هناك من يرعاه ويخدمه، ولصغر سنه يعتقد والده أنه لا يفهم الكثير من أمور الكبار، فيكون الحديث بين الأب وبعض الأشخاص عن السياسة والفن والأدب والنساء، والحالة الاجتماعية في مصر وقت الحرب العالمية. يجيء التلصص تلقائيا في مرات عديدة حتى إنه لا يقف ما يرويه عن الحدث الراهن إذ الرواية ما هي إلا استرجاع وتصور للماضي، بعضه مستمد من مصادر تاريخية وحكايات كانت تتردد على ألسنة الكبار بالتواتر عن الزمن الماضي في حالة نوستالجيا، وفي اتكاء على ما حدث للكاتب (صنع الله إبراهيم) من أمور حياتية في أغلبها سياسية لكونه يتمسك بالحبل الأيديولوجي الذي تمكن منه وعرضه للاعتقال والسجن لانتمائه للشيوعية عندما كانت الناصرية تدق مساميرها لإثبات واقع مخالف هدفه إحكام دائرة الولاء لها كمنقذ متطور يبني لمستقبل مصر؛ مما حدا بها نحو ما كان يدعى بالاشتراكية، والترويج لها إعلاميا مما نتج عنه من تهشيم البنية التحتية باسم القومية العربية التي كانت سببا في تفاقم الخلافات بين بعض الدول العربية، وبين التي قضت على الشعارات الزائفة ودفعت إلى الواقع سالكة الطريق المستقيم، والتلصص الذي تتحرك في مربعاته هذه الرواية ما هو إلا إفراز قهري كاستعادة لحدث ماض كان وما زال يلتصق بالكاتب، بالرغم من أنه في روايات كـ (شرف - بيروت بيروت -ذات -وردة) فتح ضلعا أو ضلعين كانت فيها الرؤية بانورامية من ناحية السرد والمبني الذي يعنى بأمور معاصرة وآنية ومتنقلة إلى آفاق أبعد أفسحت المجال للكاتب الموهوب كما وصفه الروائي يحيى حقي، وما أشار إليه القاص يوسف إدريس حيث إن كليهما قد مهدا طريق الشهرة أمامه بالرغم من انتقادهما له. عموما روايات الكاتب تسير في تنقلات أحداثها كرصد تجريدي وتسجيل منقول من كتب أو حكايات متواترة يتفنن في توليفها لتتوافق مع بعضها، بمعنى أن الشاعرية التي تتأتى من الخيال الذي يضفي طراوة تحلق بالقارئ في تفاعل مشترك ليس لها من الحضور إلا فيما ندر، فقراءة الرواية لا تختلف عن قراءة الروايات الواقعية التي كان يدعى لممارستها في فترات منتصف القرن الماضي بالواقعية الاشتراكية إلا في جزئيات لا كليات كما هو سائد عند الروائيين الأشهر في راهننا الحاضر وفي الماضي. تميل الرواية إلى التجريد؛ مما يوحي بنقل الحدث بعدسة لاقطة ذات بعد واحد لا يمكن تأويله لكونه قد وضح في اللقطة بشكل متكامل، ففي التجريد يوضح - عبدالرحمن الميداني - أنه (مصطلح قديم من مصطلحات التراث العربي لغةً إلى (قشر الشيء) كقشر اللحاء عن الشجرة حتى تكون مجردة من لحائها، وإزالة ما على الشيء من ثوب ونحوه، وتعريته وإزالة ما على الجلد من شعر ونحوه) ولكن في دلالته الاصطلاحية فمعناه عند - علي معصوم المدني - كما ورد عند الناقدة (شمعة جعفري) في دراستها عن الشاعر محمد الفيتوري، والتي احتوت على التعريف السابق - للميداني - « التجريد اصطلاحيا» أن ينتزع من أمر متصف بصفة ما أمر آخر مثله في تلك الصفة مبالغة لكمالها فيه، حتى كأنه بلغ من الاتصاف بها مبلغا يصح أن ينتزع منه أمر آخر موصوف بتلك الصفة كقولهم: والنسمة المباركة آخر مثله متصفا بصفة البركة، وعطفوا عليه كأنه غيره، وهو هو في نفس الأمر «وهذا يرد كثير في كتابات (صنع الله إبراهيم) في نسق متناسل على نمط من وتيرة واحدة تتشكل في التقديم والتأخير من روايته الأولى - تلك الرائحة - مرورا بمعظم إن لم أقل كل رواياته تتسم بالتذمر من الأوضاع السائدة في المجتمع حيث التهكم والسخرية المرة التي غرسها السجن في جوَّانيته فهي تطفو على السطح تلقائيا، فصارت كسمة ملتصقة بمنتجه الإبداعي. يحشد عبارات وكلمات لاهثة مقننة ومختصرة مضارعة الفعل في آنيتها ولفظها الدال على الاحتقان الذاتي التابع لنبضات القلب المنفعل حتى في وصف الآخر خشية ضياع تراكم الكلمات التي تجري وراء بعضها للحاق بتصوير وتجسيد المعنى، وهذا ما يدعى بالمفارقة بين الكاتب وسواه من الروائيين المعاصرين له، ويعطي الروائيين الحاليين في مصر ميزة الاختلاف ومحاولة تقديم العطاءات المستجدة كما هي واضحة عند بعضهم ممن تسيدوا الساحة وتوالت طبعات رواياتهم كأحمد خالد توفيق، وعمرو عبدالحميد، وأحمد مراد، وغيرهم من الراكضين إلى مغايرة الطرح السابق. صنع الله إبراهيم

مشاركة :