ما الكتاب الذى غير حياتك؟ سؤال يطالبنا الأصدقاء بالرد عليه والإجابة حقا تحتاج للكثير من الوقت والتأنى، بمعنى ما هو حجم التغيير الذى أحدثه كتاب بعينه لدرجة أنه غير مسار حياتك؟! يجيب البعض بعناوين كتب التنمية البشرية والتر أراها أن تأثيرها قد يكون لحظيا بمعنى أنه يساعدك في تخطى موقف ما أو مرحلة ما، لكن ما الكتاب الذى يحدث في نفسك أثرا عميقا ويحفر لصفحاته مكانا في ذاكرتك؟ الحق أن الإجابة ستكون لعنوان أو اثنين من بين مئات الكتب التى قرأناها، وبالنسبة للكثيرين حول العالم فإن كتب السيرة الذاتية هى التى تحدث هذا الأثر والتغيير، كتب السير وليست المذكرات واليوميات.فنجد أن دور النشر العالمية تهتم جدا بنشر السير الذاتية للفنانين والسياسيين والكتاب بحلوها ومرها والأهم بلا انتقائية، فهى لا تبرز مثلا الرئيس أو النجم وكأنه خلق ليكون نجما وحياته كانت وردية أو يسجل بطولات زائفة، أو يتضمن الكتاب مجاملات لفلان وعلان!! بل إنه فن سرد الحياة بانكساراتها وانتصاراتها.ولعل أروع مثال عربيا على فن السير الذاتية "الأيام" لطه حسين، غاب هذا الفن لفترة عن دور النشر العربية ثم عاد مؤخرا بقوة خاصة خلال العشر سنوات الأخيرة، وتصدرت دار الشروق المصرية دور النشر التى تنتقي كبار الكتاب للحديث عن سيرهم فنشرت لهيكل وجلال أمين وغيرهم، ومنذ عشر سنوات أقدمت دار جداول اللبنانية لمؤسسيها الكاتب السعودى البارز محمد السيف والطبيب السعودى د. يوسف الصمعان على التركيز على كتب وفن السير الذاتية ورفدت المكتبة العربية بعدد لا بأس به من كتب تروى حياة الشخصيا البارزة في المجتمع السعودي محليا ودوليا بمنهجية تركز على الوثائق والشهادات تارة، وتارة أخرى على الملاحظة الإثنوجرافية ومعايشة المؤلف للحياة من حوله بوقائها وتأثيراتها عليه وكيف استطاع أن يستمر في حياته برغم التحديات.. هذا ما نرصده في أحدث مطبوعات دار جداول عن سير أطباء سعوديين عاصروا ألمانيا في حقبة الستينات والسبعينيات وهما د. فالح بن زيد الفالح، والدكتور محمد المفرح، وقد وثق محمد السيف لحياة وزير النفط السابق عبد الله الطريقى والدبلوماسى المخضرم ناصر المنقور، بمنهجية الباحث والمؤرخ الحصيف والسارد المبدع. وهذا الشهر طرحت المجلة العربية التى يرأس تحريرها محمد السيف ملفا هاما يناقش قضية كتابة السير الذاتية وأهميتها والتحديات والإشكاليات التى تواجه هذا الفن السردى، بأقلام نخبة من المتخصصين من جميع أنحاء العالم، والنقاشات في هذا الملف تجعلنا نتوقف عن خطورة غياب هذا الفن السردى عن مكتباتنا العربية.والإشكالية برأيي تقف عند غياب أدب الاعتراف ربما كانت سيرة محمد شكرى "الخبز الحافى" مثالا على تطبيق نظرية الاعتراف، وسائرا على نهج جان جاك روسو في كتابه " الاعترافات" حينما كشف ضعف النفس البشرية أمام الظروف التى تقهرها أحيانا وأحيانا أخرى تصنع منها شخصا أقوى يمتلك الكثير من الخبرات وبالتالى الحكمة، وهى التجارب التى تثقل القارئ حقا وتعطيه نوعا من أنواع المعرفة يعز على فنون السرد الأخرى التى تعتمد التخييل. وكشف عن أهمية أدب السير الذاتية الكاتب الكبير الراحل سلامة موسى في كتابه الموسوم" أدب الشعب"، حين خلص إلى أن خير ما يكتبه الأديب أو المؤلف هو نفسه وشخصيته:" حين نطالبه بالاعتراف إنما نطالبه بأن يرسم لنا هذه الشخصية، كيف صاغها؟ كيف اختار؟ كيف نجح أو لماذا خاب؟.." وسوسيولوجيا، لم يغب أدب الاعتراف عن علم الاجتماع والذى قد بدأ هيغل نقاشا حول جدلية الاعتراف، وقد يفيد الرجوع إلى أكسيل هونيث العالم والفيلسوف الألمانى، الذي يمثل الجيل الثالث من علماء مدرسة فرانكفورت النقدية لا يمكن تحقيق ذواتنا بحسب أكسل هونيث إلا من خلال الاعتراف.. هونيث توصل إلى أن علاقتنا بالآخرين من محيطنا الاجتماعي ومن نتفاعل معهم تشكل ذواتنا.من هنا يرى أكسل هونيث أن الاعتراف المتبادل كفيل بوضع حد للصراعات الاجتماعية القائمة على السيطرة والهيمنة والظلم الاجـتماعي، وهذا كان محور أطروحته الشهيرة "الصراع من أجل الاعتراف.. قواعد النزاعات الاجتماعية".. ما أود قوله هنا أننا بحاجة لأدب السير وليست المذكرات أو اليوميات التي قد يشوبها الكثير من التكلف والزيف، بل نحتاج لسرد المكاشفة الذي يقدم الحقائق ويعري المجتمعات والسلوكيات الخاطئة بما يعين القراء على تفادي هذه النماذج وتخطى المجتمع لأزماته القيمية والأخلاقية.
مشاركة :