قطار الإمام البخاري.. إلى أين يتّجه؟

  • 12/14/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يشاهدُ أي مراقبٍ في الشأن الثقافي والتواصل الاجتماعي من حينٍ إلى آخر، بعضَ العبارات التي تتوجّه بشيءٍ من الشكِّ إلى كتاب الإمامِ البخاري «الجامع الصّحيح» وتطالب بتصحيحِه أو تنقيتِه، ويزدادُ العجبُ حين ترى هذه الأصواتَ تأتي من غير مختصّين بعلم الحديث.يقول هؤلاء الذين يخربشون ويحكّون رؤوسهم ويكتبون: لماذا لا ننقد البخاري؟ وكأنه مقدس؟ والحقيقة التي يجهلونها هي أنه لم يقلْ أحدٌ من سلفنا الصالح إن كتاب البخاري لا يمكنُ نقدُه، أو أنّه مثل القرآن الكريم! بل ما قالوه هو: إن كتاب البخاري متنٌ في الحديث الشريف اجتهد جامعُه في انتقاءِ أحاديثِه بمنهجيةٍ علميةٍ صارمةٍ، ثمّ فحَصَها علماءُ آخرون مثله ومن شيوخه ومن بعده وارتضَوها.ونستطيعُ مبدئيا أن ننقدَ هؤلاء جميعا بشرطٍ واحدٍ، وهو أن نعتمد على منهجٍ علميٍّ ٍدقيقٍ يتفوق على منهجِهم في دقتّه، هذه هي الحكاية كلها. والعلماءُ الذين ساروا على هذا المنهج العلمي الصارم كالدارقطني والغسّاني وغيرهم انتقدوا الكتاب وغربلوه وعقبوا عليه وتتبعوه تتبعا طويلا، ولم يسلّموا له بمجرّد الدعوى.قبل سنواتٍ رأيتُ كتابا ينتقدُ صحيح البخاريّ فحصلتُ على نسخةٍ بعد جهدٍ، لأعرف المنهج النقديّ الجديد فوجدت كلاما مجموعا من الصحفِ ومن الشبكة وهو أشبه بالهزل منه بالجدّ، فقائلٌ يقول: كيف نقبله، ونحن لا نملك نسخةَ المؤلف الأصلية؟ ولهذا القائل نقول: إننا لا نملك كذلك نسخةَ القرآن الكريم الأولى التي كتبها عثمان بن عفان، فهل نترك القرآن كذلك؟وآخر يقول: من أين جاء البخاريّ بهذه الأحاديث، ووفاته في سنة 256 هـ؟ وهذا القائل يظن أن البخاريّ فاجأنا بكتابه من وسط الظلام، ليقول لنا: خذوا هذه الأحاديث النبوية جمعتُها لكم، ولا يعرف هؤلاء أن كل أحاديث البخاري كانت معروفة قبله وأن عملَ البخاريّ هو الانتقاء والتمحيص بمنهج علميّ يعرفه المختصُّون.وثالثٌ يقول: من الذي فرَض على الأمة الإسلامية قبول صحيح البخاري؟ وهو يظنُّ أن هناك قرارا سياسيا أو سلطة ألزمت الناس به، والبخاريّ لم يتولَّ منصبا رسميا في الدولة، ولم تتبنَّ كتابَه أيُّ سلطةٍ سياسيةٍ لتفرضه على الناس، ولكن المنهجَ العلميَّ وحده هو الذي جعل العلماء يُجمعون عليه، ويقبلونه فقبله الناسُ معَهم وبعدَهم، وأذعنت الأمةُ لهم لأنّهم أهلُ هذا الشأن.ورابعٌ يقول: إن حديث كذا وكذا لا يتّفق مع العقل فكيف نقبلُه؟ وهنا نأتي إلى مسألةٍ خطيرةٍ عن مدى سلطة العقل المجرّد على النصّ الديني؟ وهذا مجالٌ من القول يطولُ، وتدخلُ فيه فلسفاتٌ ومذاهبُ إسلاميةٌ وغير إسلاميةٍ، وهناك أحاديثَ انتقدها العلماء عقليا لأسباب يدعمُها الفهمُ الدينيّ نفسه، والمعتزلة حين نقدوا بعض الأحاديث عقليا، لم يأتوا من فراغٍ مجرّدٍ، بل استعانوا بالفهم الديني نفسه ليتكّئ عليه العقل، كما ردّ بعضهم حديث سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- لظنّه أنه يناقض العصمة ليتم التبليغ، فالعقل هنا اعتمد على المقصد الشرعي ليصل إلى النتيجة التي يرى أنها جيدة.يمكن تلخيص المشكلة في أن التواصل التقنيّ جعلَ كل واحدٍ يتحدّث في كل شيءٍ، وصار الحديثُ في البخاريّ كالقطار يركبه، ويقف على أبوابه العالمون والجاهلون والهواة ومحبو الثقافة ومحبو الشهرة والبائعون المتجولون وغيرهم، وإن تصوّرت هذا الحال أدركتَ أن هناك جهلا بآليّة التراثِ الإسلاميّ ومنظومته المعرفية والحضارة الإسلامية ومنهج علوم النقل ومسالك تدوينها، حتى صارت معلوماتُ كثيرٍ منّا كثيرةَ الثقوب غير متماسكة الأجزاء، لاضطراب التأسيس المعرفي والعلمي، وعدم التفريق بين المصادر وتقييمها ولا وسائل المقارنة، فراجت على بعض الناشئين والناشئات مثل هذه الأقوال التي يروّجها بعضهم عن صحيح البخاري وعن غيره من مصادر هذه الأمة وموارد علومها، وهي أقوالٌ كالضباب الذي يتبخّر حين تشرقُ عليه شمسُ المعرفة، وتمسّه نار النظر العلمي الجادّ.

مشاركة :