أهمية بناء مهارات «المرونة» في التعليم العالي للنجاح في سوق العمل

  • 12/15/2020
  • 01:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ما أجمل لحظة تخرج الطالب وقد توجه إلى سوق العمل وهو متسلح بالمعرفة والقدرات والمهارات. وفي أول صدمة، يكتشف الخريج فقدانه لبعض المهارات التي لم يتعلمها أثناء دراسته مما قد يؤثر عليه سلبًا سواء عمليًا أو نفسيًا. وقد يصطدم بأسلوب إداري روتيني لم يتعود عليه، فيتذمر وينزعج ولا يعرف التكيف مع بيئة العمل. وقد يتفاجأ الخريج أن مكان العمل يلزمه تعلم شهادات إضافية احترافية مما يعني أنه سيرجع إلى مقاعد التعلم مرة أخرى، فيصعب عليه التكيف مع المعطيات الجديدة. وأطرح السؤال هنا: «ما هي قدرة الخريج في التكيف مع المتغيرات المتسارعة في سوق العمل». هل لديه «المرونة resilience» في التعامل مع هذه المتغيرات؟ أم أن ضعف المرونة قد يتسبب في أن ينكسر الخريج في أول هبة عاصفة جراء صدمة أو تغيير أو تحدي. تعرَّف المرونة بشكل عام بأنها القدرة على التعافي أو التكيف بسهولة مع المتغيرات أو المتطلبات. تُعرِّف الجمعية الأمريكية لعلم النفس المرونة بأنها «عملية التكيف الجيد في مواجهة الشدائد أو الصدمات أو المأساة أو التهديدات أو المصادر الموصلة للتوتر» (مرونتك، 2012). أما الشركة الدولية أدفانس AdvanceHE، فهي تعرف مصطلح المرونة بالقدرة على البقاء والازدهار في مواجهة التحديات. نفذت Advance HE مؤخرًا مشروعًا واسع النطاق بمشاركة 300 من كبار القادة التربويين من المملكة المتحدة وحول العالم. انبثقت من هذا المشروع فكرة تطوير المرونة المستدامة، حيث تم عمل مشروع تمحور في ستة تقارير مفصلة. في هذا المنشور المسمى بـ«كابستون»، تم تضمين الأفكار والنهج المتعلقة بالصحة والمرونة. قد قام إيفان روبرتسون وكاري كوبر بوضع النموذج المشهور الذي يفسر فيه أن المرونة لها أربع مكونات رئيسية وهي الثقة والعزيمة والقدرة على التكيف والدعم الاجتماعي. يضم نموذج دوج باركن المستخدم من قبل Advance HE ومؤسسة القيادة للتعليم العالي بالمملكة المتحدة أربعة أبعاد حول المرونة وهي: العواطف والعلاقات والأفعال والوجود.ولنأخذ بعض الأمثلة كي نرى أهمية المرونة في العمل. فهناك بطبيعة الحال تحديات في حال تخرج الطالب من الجامعة وانخراطه في سوق العمل، كون أن هناك متطلبات جديدة خاصة بالعمل. في لحظة قد يظن الطالب أن الكل متعاون أو متفاهم، ولكنه قد يتفاجأ أن هناك من هو غير متعاون أو من هو غير متفهم للتحديات التي يمر بها الخريج (الموظف الجديد). وقد يتفاجأ الخريج أن المجتمع الداخلي لمكان العمل غير متناسق أو غير محفز للعمل. قد يجد الخريج نفسه خارج المنظومة العاملة بسبب بعض التحزبات مما يزيد من الضغوط النفسية عليه. وقد يتعامل الخريج مع مدير حازم أو شديد ولا يعرف كيفية التعامل معه. كل هذه التحديات النفسية أو الاجتماعية تؤثر بشكل سلبي على الخريج ويتسبب في تعثره في بيئة العمل مما ينعكس على أداء العمل. ولذلك، تقوم العديد من الجامعات ببناء المنظومة الداخلية للجامعة لتمكين الطلبة وتجهيزهم ليصبحوا مرنين. تلعب المرونة (أو عدم وجودها) دورًا في جميع مجالات الحياة. ويؤدي الافتقار إلى المهارات الخاصة بالمرونة إلى عدم قدرة الطلبة على تجاوز التحدي أو الفشل، أو عدم قدرتهم على مواجهة الشعور بالرفض (الحقيقي أو المتصور). لهذا السبب، عملت الكثير من الكليات والجامعات على بناء وتعزيز المرونة لدى الطلبة للنجاح في الحياة العملية. ففي جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة، يتم تطوير الطالب شخصيًا ومهنيًا من خلال برنامج لمدة 5 أسابيع يسمى Mason›s Resilience، حيث يحتوي على جلسات شخصية وأخرى عبر الإنترنت بالإضافة إلى وحدات تعلم عن المرونة. أما جامعة ستانفورد، فهي تشتمل على مشروع لتنمية مهارات المرونة القائم على عنصر السرد القصصي، والحديث المتبادل بين الطلبة. يتم تدريب الطلبة على مهارات المرونة في جامعة ستانفورد على تعلم طلب المشورة والتواصل مع المجتمع، والتغيير أو التكيف عند العمل تحت الضغط أو العمل في فروع التخصص. في ولاية بنسلفانيا، يدار برنامج Penn Resiliency من مركز متخصص في علم النفس الإيجابي، والذي يقوم في الغالب على ورش العمل داخل الجامعة. ولا يقتصر هذا البرنامج على البيئة الداخلية للجامعة، بل يشمل إشراك أفراد من خارج الجامعة لبناء الصحة العقلية ورفع المعنويات والتفاؤل. كما يتم عرض قصص للنجاح والفشل من شخصيات معروفة وليست بالشرط أن تكون مشهورة. أما في جامعة هارفارد فيتم استضافة أربع جامعات أخرى حيث يتم الحوار حول دور المرونة في النجاح والفشل من خلال سماع القصص من الناجحين أنفسهم. يتم أيضًا عرض مقاطع فيديو لخريجين يتحدثون عن النجاحات والإخفاقات السابقة، وكيف تغلبوا عليها من خلال المحاولات المستمرة أو إضافة فرع قد تعلمه إلى مجال تخصصه، أو التركيز على الهدف والمضي بهدوء نحوه في ظل العاصفة المترامية حوله. أما في برينستون فقد تم عرض مشروع برينستون لوجهات النظر (PPP) لتعليم المرونة والتوعية. تقوم هذه المبادرة التي بدأت في 2017 بإعطاء الطلبة فرصة «مشاهدة قصة» و«مشاركة قصة» على موقع إلكتروني، حيث يتيح للطلبة المرور بمشاعر مختلفة مثل الضغط، والقلق، والتفرّع، والحياة الاجتماعية، والأهم من ذلك التعرف على أهمية الدرجات والكمال، والمرور بموقف محرج أو الوقوع في فشل، والتخطيط للنجاح. كما يحتوي على جلسات خلوية (لمن أراد) أن يتحدث عن تجربته الخاصة وكيف حور أو غير مواقف سلبية في ظاهرها إلى إيجابية في مضمونها. في جامعة تكساس، قد تم تطوير تطبيقًا مجانيًا على iPhone يسمى Thrive at UT لتعزيز التفكير الإيجابي لدى الطلبة ومرونة الانتقال من أي موقف سلبي إلى إيجابي. يسترشد التطبيق بمدخلات الطلبة حيث يقدم سبع مجالات مختلفة للموضوعات. ويهدف إلى إلهام الطلبة لإجراء تغييرات صغيرة في روتينهم اليومي من أجل التغيير الإيجابي. يتم أيضًا عرض مقاطع فيديو لطلاب الجامعة مما يشجع الطلبة على التعلم من أقرانهم وتطبيق المعلومات على تجربتهم الخاصة. نلاحظ في كل تجارب الجامعات التركيز على الأسلوب القصصي في «تغيير العقليات» و«تنمية المرونة». كما نلاحظ أن الاشتراك التعاوني والتبادلي بين الطلبة أنفسهم أو الطلبة مع أعضاء هيئة التدريس والموظفين الذي يساهم في إعادة تعريف الفشل باعتباره جزءًا مهمًا من عملية التعلم. تقدم هذه المؤسسات أمثلة على البرامج الإبداعية والمدروسة التي تسمح للطلبة باستكشاف وتقدير الأشياء التي تجعل كل منا إنسانًا يخطئ ويواجه الصعوبات والتحديات فيتغلب عليها وينجح في نهاية المطاف. وقد يفشل، ثم ينطلق مرة أخرى حتى يصل إلى مبتغاه. قد عملت مؤسسات التعليم العالي على تهيئة الأرضية المناسبة لبناء مهارات المرونة كالتعلم الذاتي والتعلم مدى الحياة. كما عملت على أن تعطي مجالاً للحياة الاجتماعية داخل الوسط الجامعي ليتسنى للطلبة النجاح أو الفشل في تجاربهم، وينطلقون بعد ذلك نحو النجاح. عند تلخيص التجارب أعلاه نستنتج أن الطالب يحتاج الى أن يكون مرنًا لأربع حالات، وهي الثقة والإصرار والحالة النفسية والصحية، والحالة الاجتماعية، والتكيف. وفي كل حالة هناك مهارات أو أسلوب تفكير يحتاج إليه الخريج للتكيف مع المعطيات أو المتغيرات. في زمن ليس ببعيد كان الطالب هو المسؤول عن نفسه في تطوير المهارات العامة وخاصة فيما يتعلق بالأمور النفسية أو الاجتماعية، لكن توجهت الكثير من الجامعات في إدراج «المرونة» في مناهجها الأكاديمية سواء كانت صفية أو غير صفية. أخيرًا، لا أريد أن أكتفي بذكر مجال المرونة في تجارب جامعات الدول الغربية فقط، فلدينا من سيرتنا العطرة ما يشير إلى أهمية المرونة. فمثلاً، قد اختار نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن يكون ناصروه ومؤيدوه من أهل الطائف أملاً منه أن يجد من أهلها النصرة والتأييد، والوقوف معه في دعوته إلى الله. ولكن كلنا نعرف أن الأمر حصل خلاف ما توقعه النبي عليه الصلاة والسلام، بل وقد ووجه بالضرب والتجريح. فما كان منه إلا أن غير خطته وتوجه إلى مكان آخر بصورة مدروسة، وفيها تأسست دولة الإسلام. ونسترشد من ذلك عوامل المرونة بدءًا بتربية الذهن على الحوار الهادئ المتمثل في الحالة النفسية المستقرة، والثقة بالله والإصرار على الاستمرار والمضي نحو الهدف، والدعم الاجتماعي والتكيف ودراسة خطط بديلة للوصول إلى المشروع المنشود.ختامًا، المرونة تعطي قوة للخريج في النجاح في سوق العمل، بل تهبه استقرارًا وتفكيرًا إيجابيًا نحو هدف واضح. قد تكلمنا عن عوامل المرونة وطريقة بنائها في الجامعات والكليات، وفي المقال القادم سنتكلم عن أهمية مرونة الجامعات للمعطيات والمتغيرات في سوق العمل. ‭{‬ الخبير الدولي في جودة التعليم العالي-قسم الهندسة الكيميائية، جامعة البحرين

مشاركة :