مع تراجع أسواق الأسهم وإغلاق معظم البورصات الرئيسية في العالم أول أمس على انخفاض، أصبح التساؤل المطروح الآن هو: هل يقف العالم على أعتاب أزمة مالية تعيد إليه الذكريات السيئة للأزمة المالية العالمية في 2008؟، أم أن الأمر لا يتعدى هزة اقتصادية عنيفة سريعا ما سيتم تجاوزها والتغلب عليها؟ ونتيجة للترابط الاقتصادي القائم بين الأسواق الصينية ونظيرتها الآسيوية، فقد كبد التراجع في أسعار الأسهم في بورصتي الصين الرئيسيتين في شنجهاي وهونج كونج، بورصات آسيا الرئيسية خسائر كبيرة ومن ثم أغلقت على انخفاض، وجذبت معها للأسفل الأسواق الأوروبية والأمريكية لاحقا. ويقدر محللون حجم الخسائر في البورصات العالمية بنحو 3.3 تريليون دولار أمريكي منذ إقدام البنك المركزي الصيني على خطوته بالسماح لآليات السوق بالقيام بدور أكبر في تحديد قيمة العملة المحلية اليوان. تجار في بورصة نيويورك يتابعون مؤشرات الأسهم. "رويترز" وأثار إعلان بكين عن انخفاض مؤشر كاسين - ماركت للمشتريات بقطاع الصناعات الصينية من 47.8 في تموز (يوليو) إلى 47.1، حالة من القلق بشأن قدرة الاقتصاد الصيني على النمو، وأدى القلق إلى عمليات بيع مكثفة للأسهم الصينية، لتغلق البورصة على تراجع بأكثر من 4 في المائة. وقد أدت الهزة في الأسواق الصينية إلى تراجع مماثل في باريس وفرانكفورت، حيث منيت البورصة فيهما بخسائر تقدر بـ 3 في المائة أما بورصة لندن فأغلقت على انخفاض بنسبة 2.8 في المائة. الاقتصاد الأمريكي الذي يقود النمو العالمي منذ منتصف العام الماضي، الذي تتجاوز فيه سوق الأسهم ما قيمته 21.5 تريليون دولار، لم يستطع هو الآخر أن يتصدى بمفرده لما يحدث في الصين وآسيا وأوروبا، فمني مؤشر "ستاندارد آند بورز" بأكبر انخفاض نسبي في يوم واحد منذ نحو أربعة أعوام، إذ فقد 64.8 نقطة أو 3.19 في المائة، وأغلق مؤشر "داو جونز" الصناعي منخفضا 3.12 في المائة، فيما تراجع مؤشر "ناسداك" 3.52 في المائة. وكما تعرضت أسواق الأسهم العالمية للخسارة، تراجعت أسعار النفط الأمريكي بشدة، وهبط سعر خام نيويورك لأقل من 40 دولارا للبرميل، وذلك للمرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية، ليحقق أكبر خسارة أسبوعية منذ عام 1986. وبالرغم من أن مزيجا من القلق والتوتر يتحكم في رؤية المحللين بشأن سوق الأسهم العالمي، إلا أن أغلب التوقعات تشير إلى أن البورصات الدولية ستشهد مزيدا من التراجع والخسائر في الفترة المقبلة. ويزداد الوضع تشنجاً مع تنامي أحاسيس وقناعات لدى عديد من المستثمرين بأن معدل نمو الاقتصاد العالمي، سيأخذ في التراجع خلال الربع الأخير هذا العام، خاصة مع انخفاض معدلات الإنتاج الصناعي في الصين، والتكهنات المتضاربة بشأن ما إذا كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سيرفع أسعار الفائدة قريبا أم أن عليه الانتظار حتى تهدأ الأوضاع وتستقر الأسواق نسبيا قبل اتخاذ قراره بهذا الشأن. "ستاندرد آند بورز 500" تكبد أكبر خسارة يومية له في نحو أربع سنوات. "إ ب أ" ولكن ما أسباب الوضع الراهن في أسواق الأسهم العالمية؟ ومن يتحمل المسؤولية؟ وهل من خطة إنقاذ دولية يمكنها الحيلولة دون تدهور الوضع؟ تتباين الآراء بين اتجاهين رئيسيين، فالأول يعتبر أن ما يحدث عملية تصحيح تلقائية للأسواق، فيما يحمل الاتجاه الآخر المسؤولية لكل من الصين، والمساعي الأمريكية لرفع أسعار الفائدة. ويقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور فران لو صن المحلل الاقتصادي، إن حجم الهزة الراهنة في سوق الأسهم العالمية يجعل كثيرا من المستثمرين ينظرون إلى الجانب الفارغ من الكوب، مشيراً إلى أن مناخ التشاؤم الراهن تجاه مستقبل السوق أكثر خطورة من حجم الخسائر، لأن التشاؤم يعني باختصار أن صغار المستثمرين والشركات الاستثمارية الكبرى ستحجم عن الاستثمار في البورصات الدولية، بل ولربما تحت ضغط التقديرات السلبية تشهد الأسواق عملية فرار جماعي من البورصات، عبر طرح المستثمرين أسهمهم للبيع تفاديا للخسائر المستقبلية. ويعتقد صن أن ما يحدث هو عملية تصحيح تلقائي للأسعار في إطار الدورة الرأسمالية، وأن جزءا كبيرا من هزة الأسواق نتيجة تلقائية لجعل العملة الصينية تخضع في تقييمها لآليات العرض والطلب. وأشار إلى أن ما يشير إليه البعض بفقاعة الأسهم الصينية، التي تضخمت خلال السنوات الماضية، نتيجة الاستثمارات العملاقة في مجال البنية الأساسية والعقارات تحديدا، قد بدأت في الانفجار، يتضمن جانبا كبيرا من الصحة، لكن الأدق أن ما يحدث يرتبط أكثر بعملية الإصلاح الداخلي في الاقتصاد الصيني، والتحول التدريجي من استراتيجية التصدير للخارج، إلى استراتيجية زيادة الطلب الداخلي، على غرار النموذج الألماني، وأنه بمجرد أن تبدأ تلك الاستراتيجية في اتخاذ مسارها الطبيعي فإن أسواق الأسهم ستعاود الاستقرار مجددا. في المقابل، يحمل البعض الحكومة الصينية مسؤولية الوضع المضطرب في أسواق الأسهم الداخلية، وما نجم عنه من اهتزازات في البورصات الدولية، ففتح الصين الأبواب للمستثمرين الأجانب سمح لرؤوس الأموال الأجنبية بضخ مليارات من الدولارات في البورصات الصينية، دون أن يكون الاقتصاد الصيني مهيأً بعد لمثل تلك الخطوة. ويفسر الراغبون في الاستثمار من أبناء الطبقة المتوسطة الصينية الساعين للثراء إقدام الأجانب على ضخ أموالهم في البورصة الوطنية بأن قادم الأيام يحمل كثيرا من فرص الثراء والغنى إذا ما أسرعوا بالاستثمار في البورصة، ونجم عن ذلك مجازفات غير محسوبة عبر الاستثمار الكثيف من خلال الاستدانة البنكية. مؤشر "داو جونز" تراجع 530.81 نقطة بما يعادل 3.12 في المائة. "إ ب أ" وفي سوق يتصف بالمركزية وعدم التحرير الكامل لأسواق رأس المال، فإن تقييم قيمة الأسهم لا يتم على أساس السعر الحقيقي بقدر ما يرتبط بالتكهنات الخاصة بضخ الدولة لمزيد من الاستثمارات المالية في السوق، وهو ما أوجد فقاعة أسهم تجني الصين والعالم الآن تبعات انفجارها. وأوضح لـ "الاقتصادية"، دونالد نيل أستاذ الاقتصاد المقارن بجامعة ليدز، أن جهود الحكومة الصينية للسيطرة على الوضع لم تفلح تماما، لكنها بلا شك أوقفت نسبيا من عمليات انهيار واسعة النطاق في البورصة. ورأى نيل، أن التأثير الصيني على الأسواق والأسهم الأمريكية لم يظهر بعد، فالصين أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وتعد المصدر الأساسي لمكونات شركات أمريكية رئيسية مثل "آبل"، ومن ثم فإن الهزة الصينية ستمتد حتما للاقتصاد الأمريكي وسيؤدي ذلك إلى تراجع معدلات النمو الإيجابية التي تحققت في أمريكا خلال العام الماضي. ويستدرك نيل قائلا، إن المشكلة التي تجعل الأفق غير مشرق هو تراجع معدل النمو في القطبين الأساسيين في الاقتصاد العالمي "الولايات المتحدة والصين"، والذي يعني أنه لن يوجد في القريب العاجل من يستطيع إخراج النظام الاقتصادي الدولي من عثرته. ووسط تلك الآراء التي تبدو قلقة من اتساع رقعة أزمة الأسهم العالمية، تتبنى الدكتورة إيملدا التون الاستشارية السابقة في بنك إنجلترا وجهة نظر مناقضة تماما ورافضة لفكرة الحديث عن أزمة في سوق الأسهم الصينية أو أن الوضع الراهن في سوق الأسهم يحمل أي خطر على الاقتصاد العالمي. وأضافت لـ "الاقتصادية"، أن حديث الأرقام المطلقة يجعل سيناريو الأحداث مخيف، فالإحصاءات تشير إلى أن الصين خسرت خلال أيام ما يتراوح بين 3 إلى 4 تريليون دولار نتيجة انخفاض أسعار الأسهم. وبلغة الأرقام، فإن الصين خسرت في أيام معدودة ما يوازي الناتج المحلي الإجمالي لدولة بحجم البرازيل، كما أن خسائر البورصة الصينية، مقارنة بالأزمة اليونانية يجعل الأخيرة قطرة في محيط، ولكن الحديث عن أوضاع البورصة الصينية يتضمن مبالغات إعلامية ليس لها علاقة بحقائق الاقتصاد. ولا يعكس سوق الأسهم الصيني في حقيقته القطاع الإنتاجي في الصين بعكس الوضع في البلدان الرأسمالية المتطورة مثل بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، فالبورصة الصينية تشكل فقط 5 في المائة من جميع أموال القطاع الخاص، وفي أفضل تقدير فإن 7 في المائة من السكان يستثمرون في سوق الأسهم، ورغم الخسائر التي تعرضت لها البنوك الصينية نتيجة هذه الفقاعة إلا أنها تبدو في أمان وغير معرضة للخطر. وتتباين وجهات نظر المحللين بشأن الوضع المستقبلي لسوق الأسهم العالمي، إذا ما أقدم مجلس الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة، فزيادة معدلات الفائدة البنكية قد يسهم في مزيد من التدهور في البورصات العالمية، وسيترافق ذلك غالبا مع قيام المستثمرين بالتخلص مما لديهم من أسهم عن طريق البيع، على أن يتم استثمار المبالغ المالية المتأتية عن طريق البيع كودائع في المصارف الأمريكية لضمان تحقيق معدلات ربحية أعلى. ويقول لـ"الاقتصادية"، جون مار الباحث الاقتصادي، إنه إذا ارتفعت أسعار الفائدة البنكية، فإن أسعار الأسهم نظريا ستنخفض، والعكس صحيح، ولكن يلاحظ أنه في الفترة السابقة للأزمة الاقتصادية في 2008، فإن ارتفاع الفائدة البنكية لم يتواكب مع انسحابات ضخمة من سوق الأسهم، إذ إن ارتفاع أسعار الفائدة كان مؤشرا على قوة النظام الاقتصادي، وهو ما شجع على مزيد من عمليات الشراء في البورصة. ويعتقد بعض الاقتصاديين أنه من السابق لآوانة الحديث عن أزمة حقيقية في سوق الأسهم العالمي، ولا بد من انتظار معرفة تأثير خفض قيمة اليوان على الصادرات الصينية، ومدى تأثير الانتعاش في سوق الصادرات على أداء الاقتصاد الأمريكي والأوروبي، وهل سيؤدي ذلك إلى انزلاق الاقتصاد العالمي إلى حافة الركود الاقتصادي، أم أن انتعاش الصادرات الصينية سيؤدي إلى ازدهار في أسواق الطلب العالمي على المواد الخام الأولية والسلع شبه المصنعة وهو ما يعني زيادة الطلب العالمي الكلي وخروج الاقتصاد الدولي من أزمته الراهنة.
مشاركة :