جمال القصّاص.. الشاعر القروي صديق شجرة الجمّيز

  • 8/24/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ثمة حالة من النقاء، تتلمّسها حين تكون في حضرة شاعر في قامة جمال القصاص، برهافة شاعر سبعيني، سيدفعك للنزول معه إلى بحر القصيدة وهناك حتماً ستتخلص من شوائب الحياة، لتعود إلى فطرتك الأولى. ربما ينتابك شعور آخر بالألم، حين تجده يزيح منطقة السطح الأكثر بروزاً وضجيجاً، ليصل إلى جوهر الأشياء، وهناك سوف تجد الحزن الأصيل كامناً في الأعماق ليُصبح متناً لقصيدته، بينما يأتي الفرح على هامشها خلسة، كلحظات خارجة عن السياق يحاول الإمساك بها لكنها هاربة في الزمن دائماً. اختار صاحب خصام الوردة أن يُحرك معوله الشعري في منطقة الظلال، ليوفر لنفسه نوعاً من الهدوء والنموّ الطبيعي لتجربته الشعرية، كما اختار أن يكون صراعه مع الوجود ذاته، الذي يريد أن يشكله وفقاً لما يرى وما يشعر، لا وفقاً لما هو كائن، ولذا يكتب القصاص بحرقة وألم، فيتناثر الحزن في فضائه الشعري، دون ابتذال أو مجانية. إنه الحزن الذي يمثل في قصيدة القصّاص وعاء الوجود الأعمق والأوسع، بل يراه محاولة جيدة لصون الروح والجسد أيضا. من أين يأتي الحزن؟ سؤال وجهناه إلى الشاعر، فلم يجد مفراً من الارتحال إلى قريته منشأة البكري في محافظة كفر الشيخ؛ فهناك انغرس الحزن في أعماقه، وظل يتمدد ويتجدد في دورة الحياة والقصيدة معاً. ينبش القصّاص في دفتر طفولته، فيبرز موت أمه جلياً وحارقاً، الموت الذي وضع أول بذور الحزن في نفس طفل على أعتاب السنوات التسع، منذ ذلك الوقت والحزن متن في حياة الشاعر وفي قصائده، لكنه ليس حزناً مجانياً مبتذلاً يتقاطع مع الفرح بشكل يبدو ساذجاً، فصاحب نساء الشرفات يراعي طبيعة المشترك الإنساني الذي يُغلف قشرة وجود الحزن والفرح، ويحاول أن ينتشلهما مما قد يعلق بهما من مجانية وابتذال، أو تواطؤات السطح الذي يراه مخادعاً. يقول القصّاص إن الذاكرة والحلم سلاحان أساسيان يعتمد عليهما المبدع، ويرى أن الطفولة هي الجزء المهم والرئيسي في الذاكرة، ومن ثم يستفيض في حديثه عن مرحلة الطفولة، ويضيف: أنا شاعر قروي إن صح هذا التعبير؛ نشأت في أسرة ريفية بسيطة، والدي تلقى قسطاً من تعليمه في الأزهر وكان يعمل مأذوناً. ثمة موقف من الحياة، تشكل في مرحلة الطفولة، واستمر معي حتى الآن؛ تعلمت أن أترك لنفسي الفترة الكافية لكي تنمو ببطء، وألا أستعجلها، أوأستعجل قطف الثمرة في غير أوانها حتى على المستوى النفسي والعاطفي. لهذه الثمرة وقتها الذي ستنضج فيه، ولا بدّ أن أكون مستعداً لقطفها. اللغة نفسها، ثمرة من ثمرات الطفولة، هذه الثمرة قادرة أن تجدد نفسها من غصن إلى آخر، ومن مدة زمنية إلى أخرى، ومهمة المبدع أن يلتقط الثمرة قبل أن تسقط على الأرض. في قريتي كنت صديقاً للأشجار، أتسلق شجرة الجميز، بل كل الأشجار، ربما أقرأ - وأنا في أحضانها - المعلقات السبع، أو بعض كتب التراث التي ملأت مكتبة أبي. كنت أستمتع بخشخشة الغصون واحتكاك بعضها ببعض، أنصت إلى حدوثات الإيقاع، والموسيقى النابعة من الطبيعة. وكان من الطبيعي أن أنقل هذه الموسيقى إلى قصيدتي. في قريتي كنت كثير التأمل في الأشياء، وعلاقاتها الخفية بعضها ببعض. ربما انتقل هذا إلى قصيدتي أيضاً لأنني أرى أن مهمتي شاعراً أن أتلمّس هذه العلاقات الخفية. الحدوثات الإيقاعية أصبحت حادة؛ اختفت منها رهافة الريف، وأخذت حدة المدينة بإيقاعها اللاهث المدمر للإنسان في أوقات كثيرة. كان أبي مهتماً بفكرة الثقافة بشكل بسيط، لكنه كان مفتوناً باللغة، احتوت مكتبته المعلقات السبع، وتفاسير القرآن وبعض الكتب التراثية، أما أخي الكبير فكان خطيباً مفوهاً ومقرئاً ساحراً، ومشاغباً سياسياً، وكان مفتوناً باللغة أيضاً. عندما عرف أبي اهتمامي بالقراءة وكتابة الشعر، بدأ يزوّدني ببعض الدواوين الشعرية، لكنه كان يراقبني من بعيد، ليترك لي مساحة من الحرية؛ هذه المساحة وفرت لي الفرصة لاكتشاف ذاتي، وفي هذا السياق القروي، استطعت أن أخلق شيئاً خاصاً بي أتميّز به عن أقراني. موت أمي في التاسعة من عمري أثر فيّ تأثيراً حاداً، لم أنعم بصدر الأم الرحب بعيداً عن الملامسة الفسيولوجية، لذلك يتدفق الحزن في شعري، لكني أعتقد أنه ليس حزناً مريضاً، بل كاشفاً ومضيئاً. الوداعة التي تنبعث من وجهه، وتسكن قصيدته، تخفي حياة مملوءة بالتمرد، بدأت حين قرر الانفصال عن أسرته في التاسعة عشرة من عمره. ترك شجرة الجميز، وعبّأ في قلبه حدوثات الإيقاع وموسيقى الطبيعة، وأخذ القطار المتجه إلى القاهرة، ليخوض مغامرة هذا العالم بمحبة طفل وقلب عاشق للحياة. خاض القصاص حربَي الاستنزاف، و73، فعرف عن قرب العدو الأبدي - حسبما يقول - كما اختار أن يذهب بقصيدته إلى منطقة الظلال، بعيداً عن الضجيج الذي يزعجه، اختار أيضا حياة العزلة بعيدًا عن شوشرة الآخر، ويوضح قائلًا: العزلة تجعلني أسمع نفسي، وأنصت إليها بشكل محب وخالص، بعيداً عن تشويش الأصوات الأخرى، أنا لا أثق بالآخر بمعناه المادي والإنساني لأنه مرتبط بفكرة المصلحة، البراغماتية، الخيانة والتواطؤ. الآخر عندي دائماً علامة استفهام ودرب من دروب المجهول، أنا لا أفترض دائماً التطابق أو التماثل مع الآخر، لكني أفترض نوعاً من شرف الخصومة. الآخر دائماً قابض يسعى أن يحتويك وفقاً لقوانينه ورؤيته الخاصة، والشاعر شخص ذاتي، ومختلف، إن لم يحترم هذا الآخر اختلاف المبدع، يصبح عبئاً عليه، ومن ثم دائماً ما أقوم بإزاحة هذا الآخر الذي يمثل في شعري نقطة غامضة وغير موثوق بها، لذلك أنقسم على نفسي باستمرار، وأتمرّد على ذاتي، وأمارس نوعاً من النزق مع اسمي، ليصبح هو الآخر وأنا الذات الشعرية. الآخر ملتبس وشائك وسيظل هكذا في مجتمعات غير صريحة، وأنا لا بدّ أن أتحرر منه دائماً. الوحدة تنهشني في أوقات كثيرة، لكنني أحبها، وأستطيع في وحدتي أن أخلق الشعر من أبسط عثرات الحياة، بل أحوّل هذا العالم إلى شعر. للإسكندرية حضور بارز في نصوص القصّاص، بل إنه كتب ديواناً كاملًا عنها الإسكندرية.. رباعية شعرية، عدّه النقاد فارقاً في تجربته الشعرية. الإسكندرية بالنسبة للشاعر الكبير، أنثى جميلة، يذهب إليها حينما تخنقه القاهرة، لتستريح روحه وحواسّه من الضجيج، فيستطيع أن ينصت لنفسه بعمق، مع إيقاع البحر ودبيب المدينة الخاص. هناك لا ينشغل القصاص بالكتابة بل يتأمل تقاطعات البحر مع البيوت والبشر والطبيعة، ليمتلئ بالجمال، حسبما يقول؛ هذا الجمال الذي أفرغه في 260 صفحة، ليصبح الإسكندرية.. رباعية شعرية أكبر دواوينه وأقربها إلى قلبه. ويضيف القصّاص: الإسكندرية كينونة مصرية، مفتوحة على العالم. مرّت عليها عصور كثيرة من التدهور، لكنها قادرة على الاحتفاظ بمذاق خاص. أذهب إلى هناك، لألقي بنفسي في حضن الطبيعة والبحر والشعر. في ديواني الإسكندرية.. رباعية شعرية استطعت أن أصنع نوعاً من الملحمية داخل النص، إذ تحولت المدينة إلى خشبة مسرح يتلاقح عليها كل ما يتعلق بمخزونها الثقافي والإنساني والحضاري. والعجيب أنني لم أفتح كتاباً واحداً عن تاريخ الإسكندرية وأنا أكتب هذه النصوص، لكن المدينة كانت تنفتح أمامي إلى الدرجة التي أبكتني، لذلك كنت أكتب بتلقائية وبسرعة شديدة، كانت الكتابة تستغرقني حتى في نومي. وفي خلال شهر وبضعة أيام، انتهيت منه، وشعرت بأنني أنجزت أهم دواويني. يرى القصّاص أن جيل السبعينات في مصر، استطاع أن ينقذ الخطاب الشعري المصري من الوقوع في براثن التكرار والعادة، ومن الذبول في لحظة تاريخية حساسة من عمر الوطن، ولذلك يطالب بإعادة النظر النقدي إلى هذا الجيل. ويوضح: طلع جيل السبعينات في ظلال خطين سياسيين شديدي المرارة والالتباس؛ خط هزيمة 67 على يد العدو الصهيوني، وما تركته من جراح في جسد الهوية المصرية، ثم خط التصالح مع هذا العدو عبر اتفاقية كامب ديفيد، في هذه الفترة خلت الساحة الشعرية في مصر من شعرائها الكبار، إما تحت وطأة المرض، مثل أمل دنقل، ونجيب سرور، أو تحت وطأة الهجرة، مثل صلاح عبد الصبور إلى الهند، وعفيفي مطر إلى العراق، وعبد المعطي حجازي إلى باريس. هنا برز جيل السبعينات، فملأ فراغ الساحة الشعرية، وضخّ دماء جديدة في شرايين النص الشعري عبر جماعتين شعريتين هما؛ إضاءة 77، وأصوات. أتصور أن الخطاب الشعري المصري كان سيسقط في هوّة من التردي إن لم ينقذه هذا الجيل الذي دافع عن الشعرية المصرية الجديدة بالندوات والمؤتمرات، وإصدار المجلات والدواوين الشعرية. نحن الذين دافعنا عن قصيدة النثر، في الوقت الذي كانت منبوذة فيه ومصادرة. لكن في النهاية بعض العناصر من الأجيال السابقة كانت تحاصر هذه التجربة، وتقوم بضربها وتحاربها، لكنها لم تستطع محوها، وأصبح هناك جيل السبعينات في الشعر المصري، لأنه جيل ابن لحظة تاريخية معيّنة، ولبّى متطلباتها، وأضاف خصائص ومقومات نوعية للشعر، واستطاع أن يحقق نفسه في كتلة، لأنه ليس جيل فرد، لكنه أيضاً حافظ على النوع أو الفرد داخل الكتلة. يفرح القصّاص بالشعر الجيد الحقيقي، الذي يلامس روحه وينشّط خياله، ويحزن ويُصاب بالإحباط حين يقرأ شعراً ركيكاً مفتعلًا تحت قناع الحداثة، وفي هذا السياق يتحدث عن قصيدة النثر، قائلًا: قصيدة النثر أصبحت قصيدة مشاعية، ليس لها خصوصية أو ملامح تميّزها. المشكلة التي واجهت هذه القصيدة، هي أنها عندما كانت هامشاً لم تكن هامشاً ثورياً، لأن قصيدة التفعيلة في هذا الوقت كانت متناً ثورياً، ولما تحولت قصيدة النثر إلى المتن، دخلت في مرحلة الشيوع. هي قصيدة الوجدان المفتوح، فيها قدر كبير من الثرثرة، لذلك تجد من يكتبون الخواطر ويسمونها قصيدة نثر. ويتابع: يسخرون من كل شيء، ومن كل القيم، بآلية اسمها الحرية، ثم يشكون في النهاية من أنهم مقيدون. أرى أن هذه الحرية لا بدّ أن توضع في قيد، حتى نشعر بقيمتها، لأن الحرية في الفن هي اكتشاف حريتي في قيدي. الحرية لا بدّ أن تصطدم بجدار لكي تجدد كينونتها. أخشى أن تتحول قصيدة النثر إلى صفحة حوادث يومية، لذلك أرجو أن تصل إلى قواعد خاصة بها. في ثلاثة أجزاء ضمن سلسلة ديوان العرب، صدرت الأعمال الكاملة للشاعر جمال القصّاص عن الهيئة المصرية للكتاب، تضمّ الأجزاء الثلاثةُ عشرةَ دواوين. لا يحب القصاص مسمّى الأعمال الكاملة، خصوصاً إذا كان الشاعر حياً وقادراً على العطاء، ولذلك يسميها الأعمال المجمّعة وإرثه الشقي. عن تجربته الشعرية يقول: لم أكن أتصور أنني أخلصت لهذا الشعر بهذا الشكل، شعرت بالامتلاء بذاتي وبالفخر، حين أمسكت بدواويني في قبضة يدي. اكتشفت أن بصيرتي الشعرية كانت نافذة وقادرة على أن ترى أشياء كان من الصعب على العقل أن يستوعبها، واكتشفت أيضاً أن الشعر أمانة ومسؤولية والتزام، ولمست المحبة العميقة بيني وبين قصيدتي التي سأجتهد في محبتها، إلى أن ألحق بصديق الروح ورفيق الدرب الراحل حلمي سالم، الشاعر الأقرب إلى قلبي، الذي ظل قادراً على إحداث نوع من القلق في حواسّي ومخيّلتي الشعرية.

مشاركة :