جون، تلك القرية الشوفية الخضراء الساحرة، كانت مسقط الولادة للفنان الكبير الراحل نصري شمس الدين. وكانت تلك الولادة المرآة التي عكست وأضاءت زمن الفرح الغائب. نصري شمس الدين ابنها البار “مطرب الضيعة” الذي أشعل أمسياتها ولياليها وساحاتها فرحا وغناء، هي ضيعة “الشيخ نصري” التي رسمها وزينها ونحتها الرحابنة (ضيعة أحلام الأجيال الطالعة )…. تغيّرت جون بغياب شيخها . رحل نصري ورحلت معه ليالي الفرح وسهرات الصيف وجلسات قطاف الزيتون وهاك المعصرة، اشتاقت لصوته يصدح في الساحات، لعجقته، اشتاقت عين الضيعة لدندناته لفرقعات خرطوش صيده، منذ رحل راح معه زمانها. نصري شمس الدين ، رفيق درب السيدة فيروز منذ أيام إذاعة الشرق الأدنى “عشرة فن ومسرح وعمر”. من تلك الإذاعة انطلقا معا، ومعا مشيا دربا فنيا طويلا شاقا وبراقا.. كان ذلك عام 1951 يوم تقدم نصري شمس الدين الى تلك الإذاعة وشاء القدر ان يقف أمام لجنة حكم فاحصة أعضاؤها عاصي ومنصور الرحباني ، الى توفيق الباشا وفيلمون وهبي وحليم الرومي، يومها بدأت الحكاية،وتجسد دفء النغم والصوت. وصل نصري الى الإذاعة فور وصوله من مصر بعد عمله مع شركة «نحاس فيلم» في فرقة اسماعيل ياسين، ليتوجه بعدها الى بلجيكا ويعود إلى بيروت حاملا دبلوما في الموسيقى. ما كان ذلك مألوفا، كان الاتجاه الغالب يومذاك ركوب موجة الفن بالفطرة والموهبة التي تغذى بالممارسة، لكن ابن جون تنشّأ على حب العلم وكان طموحه كبيرا وساعده في ذلك انتماؤه الى عائلة ميسورة الحال «مشايخ» وحرص والده على ان يتمم أولاده الدراسة والتخصص. وهكذا لعب والداه دورا كبيرا في تشجيعه على الفن وعلى صقل موهبة الغناء بالعلم والتخصص، فنصري ورث عن والدته جمال الصوت. كانت تغني الميجانا والعتابا، وكان ابنها صغيرا يرندح معها فانتبهت لجمال صوته وشجعته على الغناء، لكنه كبر وتخرج من دار المعلمين في صيدا، وصار أستاذ مدرسة يعلم مادة اللغة العربية «بالمبدأ»، لكن عقله وقلبه كانا في مكان آخر، حيث شغفه، كان يحمل العود معه ليعزف ويغني أمام تلامذته، دخل مدير المدرسة ضبطه بالجرم المشهود والنتيجة «طرده» من المدرسة بعد ان خيّره «إما التدريس وإما الغناء»، لم يتردد اختار «أستاذ العربي» الغناء ورحل فرحا مسرورا.. الى حيث قدره بعد عودة نصري من مصر، لم يشفع له دبلوم الموسيقى البلجيكي في إيجاد عمل في إمبراطورية الفن، الظروف كانت غير مؤآتية وآفاق ذاك العالم كانت لا تزال محدودة، فوجد نفسه مضطرا للعمل موظفاً في مركز البريد في بيروت، وبمرور ستة أشهر، تدخلت الصدفة، رأى إعلانا في صحيفة لبنانية: إذاعة «الشرق الأدنى» تبحث عن مواهب فنية شابة، لم يتردد ذهب فورا وهناك كان ذاك اللقاء، الرحبانيان وفيلمون وهبي، «سمعوه باهتمام كبير وحين عرفوا أنه متخصص بالموسيقى في مصر وبعدها في بلجيكا، تلقفوه فورا». نصري المنطلق ضُمَّ نصري إلى الفريق الغنائي في الإذاعة التي أصبحت تعرف لاحقاً بإذاعة «لبنان الرسمية». اسكتشات إذاعية أولا ومع من؟ فيلمون بدور سبع الشهير ومنصور الرحباني بدور مخول ونصري، وكان الرحابنة يحضّرون كل أسبوع اسكتشًا إذاعيًا جديدًا يتضمن حوارات مغناة. وما توقف الأمر على تلك الاسكتشات، اكتشف الأخوان الرحباني الممثل والمغني وبدأ العمل على الموهبتين… وخلال فترة قصيرة اشتهر كمطرب يؤدي الأغنية الجبلية والريفية لينطلق عبر ثلاثة اسكتشات غنائية «مزراب العين» و”حلوة وأوتوموبيل” و” براد الجمعية “، ثم يطلق أغنيته الخاصة الأولى، «بحلّفك يا طير بالفرقة» من ألحان فيلمون، الذي ارتبط به ارتباطا وثيقا في صداقة حميمة عززتها رفقة مشاوير الصيد إلى جانب إيلي شويري ووليم حسواني. وتوالت الفصول… تألق نصري وصار نجم مسرحيات الأخوين الرحباني بأدوار متعددة ومتنوّعة ودائما إلى جانب السيدة الكبيرة فيروز، متنقلا من دور الى دور غناء وتمثيلا، وعلى مر السنين غدا حضوره حكرا على الرحابنة. لم تمر مسرحية للأخوين الرحباني من دون نصري، وبزيه اللبناني الأصلي وبالطربوش رأيناه يشارك في جميع أعمالهم الفنية التي ناهز عددها 33 مسرحية واسكتشا غنائيا، فضلا عن الأفلام السينمائية والإطلالات التلفزيونية والاسكتشات الإذاعية. إطلالات توّجته و”غريمه” الفنان الكبير وديع الصافي حجري الأساس للأغنية الجبلية اللبنانية. فهو تميّز أولا بحضور وأداء مسرحي لافت كانت البساطة والعفوية سمته البارزة، حتى قيل إن نصري يمثل وكأنه لا يمثل، يغني وكأنه لا يغني. تلقف الرحابنة جيدا قدرات نصري تمثيلا وغناء تأثروا بجمال صوته وقوته ونسجوا له الأدوار، ما يخطر وما لا يخطر ببال، فتألق في أعمال فولكلورية مسرحية غنائية ودائما مع السيدة الكبيرة فيروز، من (جدي بو ديب) في «يعيش يعيش» الى الملك في «هالة والملك» الى المتصرف في «صح النوم» ولن ننسى حتما المختار في «بياع الخواتم» ورئيس البلدية المقاوم للحكم العثماني في «سفر برلك» ثم في «المحطة»، هو الحارس في «بنت الحارس» يفاجئنا بذاك البويجي في «لولو» وصولا الى الوزير ريبال في خاتمة أعماله مع الرحابنة «بترا» 1987 في رصيد نصري 500 أغنية ضمنها ما يقارب ال200 للأخوين الرحباني، وهذه الأغنيات لا تشمل الحوارات الغنائية التي كانت تقدم على المسرح بين نصري وفيروز. ونصري وديع حل «الشيخ نصري» بطلا في أعمال الرحابنة ؟ لماذا نصري وليس الصافي؟ أخبرني الراحل الكبير منصور الرحباني في احدى لقاءاتي معه: “كنا نبحث عن شخصية تقف الى جانب فيروز، ووجدنا هذه الشخصية في نصري، وصرنا نكتب هذه الشخصيات له . كان نصري يعرف شو بدنا ،فألبسناه تلك الشخصية الفنية “… ألبّسوه الشخصية التي رأوه فيها. قدموه كما هو بطيبته ببساطته بهضامته بعفويته الشخصية المهذبة، بطربوشه، حتى أنه لم يُعطَ في كل أعماله أي دور شرير. أحيانا كثيرة كانت أغان لنصري لحنها فيلمون تضرب أكثر، وكثير منها خالها الجمهور أنها للرحابنة وكان فيلمون يصمت سعيدا بنجاحها «كان هناك حب وحرص على نجاح العمل ككل لم تكن هناك نزعة فردية، كانوا يناقشون العمل سويا، ما كان هناك تنافس في العمل الواحد كان تكامل وغيرة على العمل لا غيرة بين أبطاله. على خشبة المسرح أم على شاشة السينما حيث شارك في أعمال الرحابنة الثلاثة «بياع الخواتم» و»بنت الحارس» و»سفر برلك»، أم على الشاشة الصغيرة مشاركا أساسيا في كل أعمال الرحابنة وسهراتهم التلفزيونية، تألق نصري شمس الدين نجما كبيرا في سماء الفن في لبنان والعالم العربي غناء وتمثيلا، مع الرحابنة وأيضا خارج إمبراطوريتهما . فإلى جانب أعماله مع الرحابنة، كان لنصري شمس الدين عالمه الفني الخاص، فهو كان يضع مع بداية كل عام برنامج نشاطاته الفنية على مدار السنة، وفي تلك الفترات التي تشهد استراحة المسرح الرحباني، كان يتفرغ لإحياء حفلاته الخاصة وبينها مهرجانات جبيل مع وليد غلمية، أو جولات لإحياء حفلات فنية في مناطق لبنانية أو في دول عربية كانت تشهد نجاحا كبيرا، لكن أبرز نشاطاته وأحبها الى قلبه كانت مهرجانات بيت الدين السنوية، فما ان تنتهي مهرجانات الرحابنة الصيفية، كان مهرجانه الخاص في بيت الدين ينطلق. وهكذا بين مهرجانات الرحابنة ومهرجاناته، كان نصري شمس الدين لا يهدأ ولا يستكين وعبثا يغني «هدوني هدوني»، سحرته عيون الفن فاندفع وراءها بكليته. كان نصري وفيلمون رفيقا مشاوير الصيد دائما ولا يتركان مناسبة لممارسة هوايتهما المفضلة ما أثار أريحة عاصي فخرطش كلمات على ورقة، وفي أحد الأيام رآهما متوجهين الى الصيد أعطاهما ورقة وقال لهما «خدو هالكلمات وحطولن لحن»، وذهب الصيادان وكما دائما العود رفيقهما ونزل الإلهام دندنة، وكانت الأغنية التي كسرت الدني.. (طلوا الصيادي). ترك نصري شمس الدين إرثا غنائيا ضخما، جبل معظمه بعبق التراث ورائحة الأرض وعادات وتقاليد الضيعة اللبنانية، فيه «الموال» و”الميجانا” و”الدلعونا” وال”قرادي”، وفيه الحب والغزل، سمعناه يغني لأم الأساور، لظريف الطول، للشال. كما غنى العين والمعاصر والكروم والبيادر… هو عشقه لضيعته جون، سكن كل فنه وإبداعه. كان نصري شديد التعلق بأهلها حتى أنه زرع جوا خاصا ومنح تلك البلدة حياة وحيوية تفتقدها منذ رحيله، ما ان يتفرغ قليلا حتى تراه في جون، ما كان ليفوّت فرصة للقاء أهل قريته وافتراش تلك الساحة مع عوده، يغني، يلعب الداما، يمارس هوايته المفضلة الصيد، وكان حريصًا مع حلول التشارين على وقف كل أعماله الفنية ليتفرغ لمواسم قطاف وعصر الزيتون، وهو من ورث بساتين الزيتون ومعصرة عن والده، كان يحب الزرع ولا يحب ان يأكل سوى مما زرع، وكانت ليالي قطاف الزيتون موسم فرح في جون، يتحلق أهاليها حول «الشيخ نصري» في تلك المعصرة وهو يعزف لهم على عوده ويصدح بأجمل أغانيه عشق نصري لجون حلق به كما بها الى مكان آخر، تلك الضيعة الساحرة التي أنجبت كبار الفنانين في لبنان بينهم شوشو، حملها الشيخ نصري بقلبه وفنه ووضعها في أحضان الرحابنة، فُتِنا بها وبحكاياتها، بعينها، بسهرات ساحاتها وأعراسها، وصارت ملهمة ضيعتهم. ولكم تساءل النقاد كيف تمكن نصري من إقناع عاصي الرحباني ان يغني في مسرحية «ناس من ورق» لقريته «جون جون بلدي جون بتعطيك الزيت والزيتون..” كان نصري محبا طيبا وفنانا كبيرا اجتذب جمهورا واسعا من لبنان الى الدول العربية الى المغتربات، وبين صفوف هذا الجمهور كان هناك رؤساء وملوك ورجالات سياسة، «ما كان نصري ليغني يوما لرئيس أو لملك، كان يغني للبلد لأهل البلد»، ومع ذلك كانت له صداقات مع عدد من الرؤساء. وعلى رغم كل ما قدمه، كان «الشيخ نصري» يطمح ويحلم بالمزيد، شغفه لهذا العالم ما عرف حدودا، لكن حلمه الكبير هو ان يلعب دورا تاريخيا آخر يحاكي ذاك الذي لعبه في «أيام فخر الدين»، أراد ان يلعب يوما دور صلاح الدين الأيوبي، وما تلكأ الرحابنة عن وضع هذا الدور له، لكنها الحرب أولا أبطأت وتيرة أعمال الرحابنة، ثم جاء الموت «وعلى غفلة» وخطف نصري وتوقف عمل ضخم فصل على مقاسه، ولما رحل رحل معه. وغاب نصري! «”يا رب خدني هيك دغري وأنا عالمسرح” هذه كانت أمنيته وكان له ذلك، في 18 آذار 1983، كان نصري شمس الدين يحيي حفلا على مسرح «نادي الشرق» في سوريا، وفجأة سقط أمام جمهوره، نزيف دماغي أودى بحياته وهو بعد في السادسة والخمسين. الصدمة كانت كبيرة، الحزن لف لبنان والعالم العربي، وجون ضيعة الفرح اكتست بالأسود… في ذاك اليوم الحزين، كتبت السيدة فيروز في وداع رفيق المشوار الفني الطويل: “كان بيلبقلك تعيش كتير، كان بيلبق لصوتك يغني بعد، كان بيلبقلك العز والاسم والضو، غيابك بكاني يا نصري، كنت قول إذا غبت بكرا بيرجع، وإذا فليت بكرا بشوفو، ولا مرة غبت هيك وفليت هالقد”.
مشاركة :