تتصدر روسيا منذ أشهر الحراك السياسي الدولي حول سورية بعد عزوف واضح للولايات المتحدة عن الشأن السوري باستثناء الجزء المتعلق بمحاربة «داعش». فمن منتديي موسكو الأول والثاني، ثم مشاورات جنيف الأخيرة، ثم الاتصالات مع الرياض، ثم استقبالها المعارضة السورية (الائتلاف، لجنة المتابعة لمؤتمر «القاهرة2»)، تتجه موسكو نحو تهيئة الأرضية السياسية لعقد مؤتمر «جنيف3» الذي ينتظر أن يكون أوسع بكثير من مؤتمر «جنيف2». وقد حاولت موسكو خلال الفترة الماضية إيصال رسائل عدة للمجتمع الدولي تؤكد حصول تغيير في مواقفها من الأزمة السورية، أهمها الانفتاح على دول المنطقة المعنية بالأزمة السورية، ودعمها مشروع قرار مجلس الأمن 2235 حول سورية، ودعمها خطة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا. لقد شكل الاتفاق النووي بين إيران والغرب أولاً، والتراجع العسكري للنظام السوري ثانياً، والاتفاق التركي- الأميركي وما تبعه من حديث عن إقامة منطقة عازلة ثالثاً، وغموض موقف واشنطن من مصير الأسد رابعاً، والأزمة الاقتصادية خامساً، أسباباً واضحة لبدء تعديل في الخطاب السياسي الروسي. والحقيقة أن هذه التحركات ليست ناجمة عن انعطافة سياسية في مواقف روسيا تجاه الأزمة السورية، بقدر ما هي إعادة تموضع تحفظ لموسكو استمرار نفوذها بعد التغيرات الحاصلة في سورية والمنطقة. غير أن الموقف الروسي ما زال غامضاً في كثير من مواقفه، لا سيما ما يتعلق بطبيعة المرحلة الانتقالية ومصير الأسد، وما تزال موسكو تطلق تصريحات متباينة بل ومتعارضة حول هذه المسائل، والتي كان آخرها إبلاغها المعارضة السورية (الائتلاف، لجنة المتابعة لمؤتمر «القاهرة2») بأنها ليست متمسكة بشخص الأسد وإنما بالدولة السورية، ثم معاودة وزير الخارجية سيرغي لافروف بعد تأكيد رفض بلاده رحيل الأسد ليس أثناء الفترة الانتقالية، بل حتى بعدها. والمفارقة الغريبة أن يذهب الائتلاف ممثلاً برئيسه خالد خوجة إلى تأكيد الموقف الروسي غير المتمسك بالأسد، في حين أعلنت لجنة المتابعة لمؤتمر «القاهرة 2» على لسان هيثم مناع وقاسم الخطيب، أن موسكو لا تزال متمسكة بالأسد ولا جديد في موقفها، وما تقوم به روسيا ليس سوى اتصالات بحثاً عن وزن بدأت تفقده في المنطقة. ومن هنا، لا فرق بين المبادرة الإيرانية والتحرك الروسي حيال الأسد، فالدولتان تسعيان إلى شرعنة بقائه في أي حل سياسي: طهران ترفض تشكيل هيئة حكم انتقالية لصالح حكومة مشتركة تحت سقف الأسد، بينما تقبل موسكو بند بيان جنيف بشأن هيئة الحكم الانتقالية مع بقاء الأسد، والفرق هو أن الأولى صريحة في مطلبها بينما الثانية غامضة في مواقفها. لكن هذا الفرق وإن كان سطحياً في الظاهر، إلا أنه يتضمن تبايناً كبيراً بين العاصمتين حيال الحل في سورية، فإيران ترفض من حيث المبدأ المساس بشخص الأسد لإدراكها طبيعة المعادلة السورية الداخلية التي تشكل فيها عائلة الأسد صمام أمان النظام، وبالتالي فإن أي تغيير يصيب هذه المعادلة بشكل كامل سينتهي بكارثة سياسية على قوتها الإقليمية، بينما تربط موسكو بقاء الأسد بالخشية من انتشار الفوضى في حال سقوط مؤسسات الدولة، وبالتالي قد تقبل ببديل عن الأسد في حال ضمنت مصالحها ضمن أي تسوية مستقبلية مع واشنطن، والأطروحة التي تسوقها موسكو هي: لا لإعطاء شرعية كاملة للأسد كإيران، ولا لنزع كامل للشرعية عنه كتركيا والسعودية، وهي بذلك تتلاقى مع واشنطن التي تنزع الشرعية القانونية عن الأسد لكنها تمنحه إياها على أرض الواقع. في كل الأحوال، تسعى روسيا من تحركاتها إلى تحقيق جملة أهداف: - تشكيل ما أطلقت عليه حلف الراغبين والمتضررين داخل سورية «لمحاربة «داعش»، يكون موازياً للتحالف الدولي، بهدف شرعنة النظام السوري في محاربة الإرهاب. - إشراك إيران في أي حل سياسي على رغم رفضها بيان جنيف. - شرعنة المعارضة الموصوفة بـ «الاعتدال» وفق القاموس الروسي- السوري والتي تقبل ما يقبل به النظام في المفاوضات المقبلة؟ - تأسيس المفاوضات لا على أساس الحقوق وإنما على أساس القوة والأمر الواقع، مستغلة عدم استعجال واشنطن إسقاط الأسد، بحيث تكون المفاوضات لمن له الغلبة وليس لمن يملك الحق. ومع كل هذا الدعم الذي تقدمه موسكو للنظام السوري، أبدى الأخير بدعم من إيران تحفظات كثيرة على التحرك الروسي، لا سيما في ما يتعلق بإنشاء منظومتين لمحاربة الإرهاب، الأولى إقليمية والثانية محلية تحت عنوان حلف المتضررين من «داعش»، وأيضاً في ما يتعلق بتأييد روسيا مجموعات العمل الأربع التي اقترحها دي ميستورا (السلامة والحماية، مكافحة الإرهاب، القضايا السياسية والقانونية، إعادة الإعمار) والعمل بها بشكل متواز وليس بشكل تدريجي، كما كان الأمر في «جنيف2». فهل تصطدم موسكو بدمشق وطهران أم تمارس العواصم الثلاث تبادلاً للأدوار لتمرير الوقت؟
مشاركة :