قد يستغرب البعض عندما يسمع أن قضية فساد أطاحت بدولة بكاملها، وقد يرى أن في الأمر بعض المبالغة، بيد أن التاريخ ينبؤ بذلك في الكثير من شواهده القريبة والبعيدة، فلطالما كانت هناك امبراطوريات كبيرة ودول نخرها سوس الفساد واتباع الحكام لشهواتهم، وابلغ قصة انهيار الحكم العربي في الأندلس، والذي شهد في سنواته الأخيرة شيئاً من الفساد، قاد إلى ضعف الدولة وانهيارها فيما بعد. والحقيقة ان هذه المقدمة البسيطة إنما سقناها تمهيدا للدخول في الازمة العراقية الناشبة مؤخراً بين الشعب العراقي، والكثير من ممثليه الذين حملهم عبر صناديق الاقتراع الى مراكز القرار، حتى إذا وصل بعضهم إلى مبتغاه أدار ظهره لناخبيه، وراح يفكر في مصلحته الفردية الضيقة الآنية متخذاً من سرقوا قبله من المسؤولين قدوة له وتبريراً لفعلته، إلى أن استشرى الفساد في معظم مؤسسات البلد ومرافقه، مما سهل لداعش والميليشات المتطرفة الأخرى وغيرها من القوى الخارجية الدخول في ثنايا الجسد العراقي من الداخل وان تنخره، وتتركه يتآكل، كما يدخل الدود في النبات اليانع. ولو تتبعنا المراحل التي مر بها العراق منذ عام 2003م، لوجدنا أن الشعب العراقي المستباحة حقوقه والمنهوبة ثرواته، انتظر طويلاً، وبعد سنوات شاقة من المعاناة في كل الميادين ضاق بها الشعب العراقي الويلات من القتل على الهوية والاعتقالات والسجون والتهميش والتشريد والتهجير، حتى ينفجر السخط الشعبي المتراكم. سنوات طويلة من انهيار الخدمات العامة والانقسام الطائفي والفساد وغياب المبدأ الوطني الجامع على هوية وحده وطنية تنصهر بها جميع مكونات الشعب، الذي يعد في الواقع صمام الأمان للعراق الموحد والمستقل وصاحب السيادة على ارضه ومقدراته وثرواته الهائلة التي سرقت، فكما هو معلوم أمل الشعب العراقي بعد إحتلاله، أن يرى انفراجاً حقيقياً في طريق الديمقراطية والعدالة والرفاهية، إلا أن آمال العراقيين سرعان ما تبخرت وجاء ما هو الأسوأ.. فعلى مدى أكثر من عشر سنوات من الغزو الأمريكي للعراق وما تلاه من احتلال إيران المبطن، واضطرابات سياسية كثيرة، لم يلمس العراقيون اي تطور ايجابي في الكثير من الخدمات الاساسية، رغم الانفاق الخيالي على مشاريع تبدو بنظر الشارع العراقي وهمية، وعلى سبيل المثال لا الحصر أن مشكلة الكهرباء ليست بالجديدة، بل لها عمر أكثر من عشر سنوات، وصرف أكثر من اربعين مليار دولار، ولكنها ازدادت سوءاً بعد سوء، بالترافق مع ازمات اخرى لا تقل أهمية وخطورة عنها، كانتشار المحسوبيات والرشاوى والفساد السياسي والاداري والمالي، الأمر الذي سارع في تنامي نقم الشعب العراقي حتى انفجر السخط الشعبي في صيف ذي حرارة عالية شرسة وبالغة القسوة. ورغم أن الكهرباء كانت العنوان الابرز في المظاهرات التي عمت الكثير من المدن والمحافظات العراقية من شماله إلى جنوبه ومن شرقة إلى غربه، إلا ان الحقائق تقول أن صبر الشعب العراقي نفذ، وأنه ما عاد بقادر على الصمت أمام عمليات النهب والسلب والخراب والدمار التي مع الأسف يقوم بها اشخاص آمنهم الشعب على مقدراته وانتخبهم لتمثيله في برلمان أصبح هو متهم بالفساد، لا سيما في ظل حكومة المالكي التي مارست بالإضافة إلى الفساد تجييشاً طائفياً ملحوظاً ساهم في زيادة الاحتقان في الشارع العراقي، وزرع الفتن الطائفية وتأجييج الانقسام المذهبي، حتى انتفض الشارع في مظاهرات سلمية ضد بعض اعضاء الحكومة والبرلمان في ظاهرة قلما تحدث والحقيقة أن هذه المظاهرات السلمية الشعبية، تبشر باستعادة درجات من المبدأ الوطني، ويمكن في الواقع ان تتحول الى حركة جماهيرية سلمية وطنية عامة باتجاه الإصلاح السلمي وإعادة بناء الوحدة الوطنية والعملية السياسية لهذا البلد العربي التي تمتهن سيادته يوما بعد الآخر ويعود الى حضنه العربي ودوره الريادي في المنطقة، بعيداً عن المحاصصات الطائفية البغيضة، ولعل قيام حكومة مؤقتة، غير حزبية، تضع في مقدمة جدول اعمالها محاسبة داعش وأخواتها بنجاعة وبروح وطنية موحدة صارمة، وبجيش وطني ومعالجة موضوع الخدمات ومحاربة الفساد وفضح الفاسدين والخونة والعملاء والسراق، تعد الآن من اولى الاولويات التي طرحتها حكومة حيدر العبادي، والتي يبدو انها تقف الآن أمام المحك والاختبار الاصعب، فإما أن تنجز مهام الاصلاح وتنقذ البلاد من الفاسدين والمفسدين، أو يغرق المركب العراقي بمن فيه في مستنقع الفساد المستشري، مما ينبء بعواقب اخطر مما يتوقع، خاصة في ظل التحديات السياسية والأمنية التي تواجه هذا البلد العربي وعلى رأسها تحدي الارهاب المستشري في المنطقة كلها. وأخيراً لابد من القول إن هذا التحرك الشعبي العارم، العفوي يجب أن يحافظ على زخمة وانتظامه وسلمية أساليبه، وتجنب كل درجة من اشكال العنف الذي يمكن أن تستغله بعض المجموعات والمليشيات والتكتلات وتركب الموجه، التي تحاول سرقة روح المظاهرات وأهدافها في التغيير سواء بإعطاء صبغة مذهبية دينية أو بطرق مراوغة أخرى. ذلك ان هناك العديد من القوى الخارجية وعلى رأسها ايران ذات الاطماع الواضحة بالعراق والنفوذ الكبير، ربما تستغل هذا الحراك الشعبي لركوب موجته بغية حرفه عن أهدافه، التي لو تحققت ستكون الخطوة الأولى لاعادة العراق إلى وضعه، والحفاظ على سيادته كاملة، وهو أمر قد لا يروق للكثيرين من القوى الغارقة في تآمرها على الأمة العربية، والتي تسعى إلى ابقاء الصراعات العربية مشتعلة في أكثر من مكان لقطف ثمار الضعف والعجز العربيين. 1- التظاهرات اجتاحت عدداً من المدن والمحافظات العراقية 2- آلاف العراقيين تظاهروا احتجاجاً على تردي الخدمات
مشاركة :