التصوف وسؤال الحداثة

  • 1/7/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يسعى الإنسان إلى التميز عن غيره من بني جنسه، لنجده يبدع في العلم والمعرفة لخدمة البشرية، غير أن المعرفة الصوفية معرفة فريدة من نوعها، تتطلب تمازج كل القوى العقلية والمجامع الشعورية، لأنها مبنية على أساس الامتزاج الصوفي والفلسفي والمؤاخاة بين القلب والعقل، والانتقال من التحلية إلى التجلية إلى التخلية، ويمثل التصوف نزعة إنسانية يمكن القول إنها ظهرت في كل الحضارات لشوق الروح إلى التطهير، ورغبتها في الاستعلاء على قيود المادة، وسعيها الدائم إلى تحقيق الصفاء الروحي والكمال الأخلاقي. بدأ ظهوره وتطوره من القرن الثالث الهجري إلى أواخر القرن الرابع الهجري، وظهرت بذوره الأولى في نزعات الزهد القوية التي سادت العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري، وسرعان ما تحول الزهد إلى تصوف. «حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طُلَعة، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية». وذُكر أن كلمة «صوفي» قد استعملت في نهاية القرن الثاني الهجري، ومن المحتمل جداً أن هذه الصفة تشير إلى استعمال لباس الصوف، الذي كان يلبسه زهاد المسلمين كما يقول ابن خلدون، وبدأ التصوف معتدلاً على الرغم من أنهم ذهبوا في أساليب الزهد والرضا إلى أبعد حد ممكن، فإنهم كانوا بعيدين كل البعد عن أحوال الجذب والوجد وما لزم عنهما من البحوث النظرية الجريئة التي ظهرت في تصوف العصر المتأخر! ويطلق كذلك الصوفية اسم «الطريقة» على مجموعة القواعد والرسوم التي يفرضها الشيوخ على مريديهم، وتتألف طريقتهم من جملة المقامات التي يجب على السالك أن يتحقق بها! بحث الباحثون في أصل التصوف ونشأته ووضعوا في ذلك النظريات المختلفة التي لا تزال قيد البحث، نعم نجد بعض أوجه الشبه الواضحة بين مبادئ التصوف ومذهب الفيدانتا، ولكن القول بأن التصوف مستمد من الفيدانتا لا يمكن الأخذ به، وفي ذات لا يمكن أن نرفض إمكانية تأثر الفكر الإسلامي بالفكر الهندي في الوقت الذي ظهر فيه التصوف، أو أن التصوف كان في جوهره وليد العقل الفارسي، وهو مالا يمكن الجزم به كذلك، لذا وجب علينا أولاً أن نثبت أن الصوفية الذين وضعوا مبادئ المذهب الصوفي كانول من أصل فارسي، والدراسات التاريخية تُنكر ذلك إلا ما جاء عن «معروف الكرخي» الذي كان من أصل فراسي، إلا أن الكلام في الأحوال والمقامات وما إلى ذلك من المسائل التي هي من صميم التصوف، لم تظهر إلا عند رجال أتوا بعده، أمثال أبي سليمان الداراني وذي النون المصري اللذين عاشا في الشام ومصر. التصوف المقابل لمجرد الزهد والورع، والذي وصل إلى درجة عالية من التطور في نصف القرن الذي وقعت فيه خلافة المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، وهو الوقت الذي كان للفلسفة اليونانية الأثر والأفلاطونية بوجه خاص في غربي آسيا، إضافة إلى انتشار الثقافة الهلينية بين المسلمين في ذلك العصر، وانتشار موجة العلوم اليونانية، والتي بلغت ذروتها آنئذ، وتم نقل مؤلفات لا حصر لها في الفلسفة والطب وسائر العلوم اليونانية الأخرى إلى العربية، وعكف المسلمون على دراستها واتخذوها أساساً قامت عليهم اتجاهاتهم الجديدة في البحث، حتى لتكاد العلوم والفلسفة الإسلامية تكون مؤسسة على حكمة اليونان. توليد المعاني والدلالات أبرز شخصية يونانية في الفلسفة الإسلامية هي أرسطوطاليس، فقد استمد العرب أول علمهم بفلسفة أرسطوطاليس من شرائح الأفلاطونية الحديثة، التي انتشرت انتشارا واسعا في متناول طبقات المتعلمين في النصف الأول من القرن الميلادي، وكان الأمر على هذا النحو بوجه خاص في الشام ومصر اللتين كانتا مركزين هامين من مراكز التصوف، إلا أن المذهب الأفلاطوني الحديث لم يصل إلى علم العرب عن طريق الكتابات الأدبية التي تميزت برمزيتها الشديدة، وتوليد المعاني والدلالات الكثيرة القابلة لأكثر من تأويل، وكانت مدينة «حران» التي كانت أحد المراكز الرئيسة المشعة للثقافة اليونانية على العالم الإسلامي. وإذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة التصوف بمعناه الدقيق، استحال أن نرد أصله إلى عامل هندي أو فارسي، ولزم أن نعتبره وليداً لاتحاد الفكر اليوناني والديانات الشرقية، وقد يكون التأثر بأفكار فارسية أو هندية. كان أهل التصوف شديدي العناية بفقه النفس، أو باستنبار ماهيتها واستنباط مكنوناتها بالتفطن والاستبصار، يقول الغزالي: «الحقيقة فقه النفس» ومما هو في الأولويات أن من لم يتزود بمعرفة النفس وخفاياها لا يصلح لمعرفتها، وأهل التصوف هم أهل التذوق بامتياز، «من ذاق عرف»، فهم يتذوقون اللغة ويستعذبونها. وهذا النوع هو تصوف تأملي أخلاقي، فإدراك الخالق يقود إلى تبصر الواقع، وبالتالي يمنحنا فهماً معمقاً للذات ومكانتها في هذا العالم، مكوناً تناغمياً بين الشخصية الداخلية، وما يمثلها من أفعال وسلوك خارجي. وما يعنينا في الأساس هو التصوف الإسلامي الذي يعتمد على التربية العملية والعلمية للنفوس، وغرس للفضائل، وتدريب الصبر والطاعات ومجاهدة النفس ومحاسبتها، وحفظ القلوب وتوحيد لله، وتمجيد وتوجه له، وبما أن العقيدة الإسلامية يظهر فيها التوافق بين الظاهر والباطن، ولذا فإن التربية الروحية سلوك، وهي عند الصوفي منهاج يقيم عليه كأثر طابع للنفس الإنسانية في تهذيبها وتميزها بحسن الخلق والأدب، فأصل التصوف هو الأخلاق، وهو ما نشهده في بدايته الأولى كحركة الزهد: «فبالأدب تفهم العلم وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد..». وما أحالنا للحديث وتوجيه المجهر للفكر الصوفي هو محاولة فكرية لحل المشكلات من الداخل أولاً، وبنظرة منبثقة من التراث منفتحة على الحضارة والنظرة الشمولية لها في سبيل الحفاظ على قيم المجتمع وأخلاقه، فما التصوف إلا نافذة عريضة مطلة على الميثاق الأخلاقي، فماهية الإنسان تتحدد من خلال أخلاقه، ونطرح تساؤلاً على أنفسنا أولاً حول قدرة التصوف الحقيقي في الإجابة عن سؤال الحداثة؟ أم هو محاولة هروب فكري – وقد يكون المنفذ – من الواقع!

مشاركة :