شكل التطور المستمر والهائل في شبكات الاتصالات العالمية والإنترنت نقلة نوعية كبيرة في وسائل الإعلام والاتصال التي يستخدمها البشر في تواصلهم وتبادل ونقل المعلومات فيما بينهم، وكان للثقافة المرئية النصيب الأكبر من هذا التطور التكنولوجي، وذلك من خلال دمج النص المكتوب مع الوسائط الأخرى مثل الصور ومقاطع الفيديو، التي باتت تجد رواجا كبيرا مقارنة بالمواقع التي تعتمد ثقافة الكلمة فقط، وبرزت شركات رائدة في المجال مثل يوتيوب Youtube وإنستقرام Instagram وفليكر Flickr، وغيرها، بل إن فيسبوك وتويتر، الموقعان الأشهر في شبكات التواصل الاجتماعي، تحولا تدريجيا نحو توظيف ثقافة الصور والفيديوهات التي تختصر الكثير من الكلمات، إضافة للتطور الهائل في "الإيموجي Emoji" أو الأيقونات التعبيرية التي أصبحت تعبر عن حالات المشاعر المختلفة للبشر، وتختصر الكثير من العبارات دون حاجة مستخدميها لكتابة المزيد في تعليقاتهم ورسائلهم عبر الواتساب أو فيسبوك وتويتر وغيرها. حول ظاهرة صدارة ثقافة الصورة وتفوقها على ثقافة الكلمة في عصر التطور التكنولوجي، وقدرتها الكبيرة على التأثير المباشر في المتلقي وإلى أي مدى باتت تشكل عائقا أمام الكتاب، جنبا إلى جنب مع وتيرة الحياة المتسارعة وضيق الوقت اللذين دفعا بثقافة الصورة للمقدمة بينما أخذت ثقافة الكلمة في التراجع، استطلعت اليمامة آراء مختصين وكتاب للنقاش حول هذه الظاهرة. حيث يرى د. عباس مصطفى صادق خبير الإعلام الرقمي، أننا نعيش اليوم عصر الصورة في كل مكان، في إعلاميات الإنترنت والهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي ومنتجات الوسائط المتعددة. الصورة التي تستلهم بنية الاعلام الجديد للحد الذي وصف فيه رئيس قسم الصحافة والاتصال الجماهيري بجامعة نيويورك ميتشل ستيفن، عصرنا هذا بعصر صعود الصورة، انهيار الكلمة في كتاب صدر له في عام 1998 يحمل نفس العنوان، The rise of the image, the fall of the word هذه الصورة الجديدة تختصر لنا العالم الذي لم نراه سابقا ، عالم بناسه وارضه وسمائه وأشجاره وطيوره ، جميعها جديدة علينا. كما تجسد لنا معنى الرقمنة في أعلى تجلياتها التي يحصر نيكولاس نيغروبونتي ميزاتها ، ضمن ما يتصف به الاعلام الرقمي مقارنة بما سبقه في استبداله الوحدات المادية التي تحمل المعلومات بالرقمية ، أو كما اسماها البتات بدل الذرات "Bits, Not Atoms ، وهي الحالة التي لا تتميز بها الصورة الرقمية وحدها وانما مجمل وسائط الإعلام الجديد . فالرقمنة، فرضت تغيرا هائلا في معالجة الصورة ضمن تقنيات نقل وتخزين المعلومات خارج مظلة الخبراء والمؤسسات ، ومكنت من دمج وتزاوج التطبيقات التكنولوجية الكبرى للإعلام والاتصال، وهي تطبيقات كانت ، إلى عهد قريب، مستقلة بشكل كبير ، كما كانت محتكرة للجهات المتخصصة والأفراد المتخصصون . والتصوير الفوتوغرافي الرقمي وهو المقابل المستحدث للتصوير الفلمي الفوتوغرافي، لم يحمل فقط انتقال الصورة من التماثلية إلى الرقمية، بل جاء بجملة كبيرة من أدوات المعالجة والتكنولوجيات الجديدة التي تفرز كل يوم أنواعا جديدة من الأجهزة والتطبيقات . هذه التكنولوجيات المستحدثة أتاحت حرية واسعة في استخدامات الصورة ونقلها وعرضها في وسائل اعلامية يملكها الجميع ما يمثل تحديا هائلا للمشتغلين بالاتصال البصري وقد بحثوا في مقاربات للحالة الانتقالية هذه من الصورة التماثلية الى الصورة الرقمية، والنتيجة النهائية لا تتعلق بفوارق تقنية ، وإنما بتحول كامل في قوة الصورة من أيدي تلك الاستديوهات الصغيرة والمصورين المحترفين ،إلى مجال واسع عابر للحدود. هذه النقلة تلعب فيها الصورة الرقمية عنصرا أساسيا في التثاقف الإنساني ونقل المعرفة والمشاعر المشتركة . هي نقلة هائلة لا تتمثل في أدوات المعالجة التي أصبحت بأيدي الأطفال والجدات، بل في الاستخدام الذي لا يحده حد، ما يستدعي إعادة النظر في تعريف مفهوم ثقافة الصورة ضمن مداخل جادة للقبول بهذا النوع الجديد من التواصل البشري الذي يقوم على الصورة الثابتة والمتحركة. أما الروائي والإعلامي ناصر عراق فيرى أن هذا زمن الصورة بامتياز، لا ريب في ذلك، فأنّى وليت وجهك ثمة صورة تلاحقك: في شاشة الهاتف المحمول... في اللابتوب... في التليفزيون، ولأن الأجهزة التكنولوجية الحديثة غدت تتقاسم معنا ساعات يومنا، فإن الانفلات من تأثير الصورة بات أمرًا شبه مستحيل، خاصة مع الأجيال الشابة، وإن كنا لا نستطيع أن نحذف كبار السن من الانجرار خلف الصور إذا كانوا من أصحاب العزيمة في التعرف إلى التكنولوجيا الحديثة والتعامل معها. هذه الصور المنهمرة على أعيننا وأعصابنا وأرواحنا كل لحظة أفسدت العلاقة المستقرة منذ قرون مع الكتاب، أو قل أربكت هذه العلاقة وخلخلتها. فالقراءة تحتاج إلى جهد عقلي، بينما الصورة تعبر أمامنا دون أن تختلس سوى القليل من تركيز العقل، من هنا يمكن القول إن هناك عدة عوامل لعبت دورًا مهمًا في التأثير السلبي على رواج الكتاب الورقي والاهتمام به، وهي: •انتشار الأمية الأبجدية في عالمنا العربي بشكل مخيف، إذ بلغت النسبة نحو 19 % في عام 2014، بينما وصل عدد الذين لا يعرفون القراءة والكتابة نحو 96 مليون نسمة في العام نفسه، وهو رقم مرعب، يشير إلى أن هؤلاء الملايين المساكين يخاصمون الكتاب تماما، فلا يقتربون منه ولا يعيرونه أي اهتمام. •الانتشار السريع للأجهزة التكنولوجية المتنوعة: الهاتف الذكي/ اللابتوب/ الأيباد إلى آخره، وهي أجهزة سهلة الاستعمال فائقة الإمكانيات، ما يعني قدرتها المذهلة على سرقة الوقت من عمر الإنسان دون أن يدري. •الميل العربي العام إلى الاسترخاء على وسادة الكسل العقلي، وهو ميل مستقر منذ قرون في أذهان الملايين ووجدانهم بكل أسف، هذا الكسل العقلي يحرم صاحبه من فضيلة البحث بنفسه عن إجابات مقنعة للأسئلة التي تشغل بال الإنسان، وأعني الأسئلة الكبرى حول الحياة وصراعاتها وتناقضاتها والموت وأسراره وغموضه. هذه الأسئلة الكبرى لن يعثر الإنسان على إجابات مطمئنة حولها إلا في الكتب: كتب الفلاسفة والمفكرين والمبدعين التي صدرت على مر التاريخ. هنا تكمن المشكلة: الكتاب يعني القراءة والبحث، وهو أمر يتنافى مع ما قلته حول الكسل العقلي الذي يهمين على الكثير منا. •تعزز الصورة التي تطاردنا حتى في أحلامنا هذا الكسل، فالصورة التي نتلقاها تغنينا عن التفكير بعمق، والصورة بما تحتويه من حركة ولون قادرة على إثارة الخيال البسيط والإمتاع أيضا، والصورة تتغير بسرعة خارقة، بعكس الكلمات المحفورة في الكتب، فهي مستقرة تستفز ملكاتنا.. تحرضنا على فك طلاسمها واختبار صوابها، وهو أمر شاق على الغالبية التي أدمنت قديمًا الإنصات إلى رجل يلقي عليها أفكاره وآرائه وتصوراته، أي أننا انتقلنا من الثقافة الشفاهية إلى ثقافة الصورة، وهو انتقال يسير على الشخص العادي لا يجهد عقله ولا يربك استقراره النفسي. باختصار... الكتاب قد يزلزل المنظومة السائدة فكريًا، والصورة قد تعزز الواقع بهزاله وتناقضاته وظلمه، ومع ذلك، فالإنسان الحصيف هو الذي يستطيع أن يستخلص أهم ما في تلك الوسيلتين من المنافع والفوائد. ويرى الشاعر جاسم الصحيح أن حضور الصورة في التاريخ البشري ليس جديدا، فالصورة.. تمثِّل الإنسان في إحساسه الفني بالحياة في عصر التكنولوجيا والميديا الجديدة والثورة المعلوماتية الحديثة، حدثت تحولات كبرى في فكرة التواصل بين البشر ومن ضمنها حضور الصورة في أشكالها المختلفة سواء الثابتة منها او المتحركة، وقد قيل قديما في الأمثال الإنجليزية أو في الحكم الصينية (على اختلاف الروايتين) ما ترجمته (صورة واحدة تغني عن ألف كلمة)، وهو قول دقيق حيث إنّ حضور الموصوف في شكله الواضح يغني عن التوصيف الذي يمتد ألف كلمة أو أكثر أو أقل. وإذا عدنا لاستقراء حضور الصورة في التاريخ البشري، نجد أن ذلك الحضور ليس جديدا في تكوينه فالصورة حضرت مع الإنسان البدائي في شكل رموز للتعبير عن مكنوناته النفسية ومخاوفه ومتطلباته في الحقب التاريخية القديمة وأشهرها العصر الحجري قبل ابتكار الأبجديات. ولكننا حينما نتحدث عن الصورة في العصر الحديث، فإننا نتحدث عن تحوُّل هائل لامس الحياة كلها من صميمها فالصورة بكل تجلياتها أصبحت ظاهرة حاضرة في كل الخطابات الإنسانية بوصفها لغةً تتَّسع وتحتلُّ لها مكانا في جغرافية التخاطب البشري في منافسة حادة مع اللغات المكتوبة، وربما من هنا يأتي السؤال عن مدى خطورتها على الكلمة ومصير الكتاب الأبجدي. غير أنني في الوقت ذاته أرى أنّ الصورة التي تنافس الكلمة في التجلي والظهور، هي أيضا ظهيرٌ لها ودليل على مصداقيتها، الأمر الذي يجعل الكلمة أعمق تأثيرا على سامعها أو قارئها، فالاثنتان (الصورة والكلمة) في حالة تكامل من خلال تفاضلهما أو منافستهما، وهذه مفارقة جميلة. أعتقد شخصيا أن لغة الصورة تمثل الإنسان في إحساسه الفني الفطري بالحياة وهذا يعني أنّ الفن جزء لا يتجزأ من تكوين البشر الداخلي. والدليل على ذلك هو سعي الإنسان عبر الشعر والأدب إلى (الرسم بالكلمات) كما عبَّر عن ذلك الشاعر (نزار قباني) ، حيث إن الكلمة لا تكتفي بالتعبير وإنما تتجاوز ذلك إلى رسم الصور بأسلوب لغوي فني عالٍ. إذن، فالإبداع هو الباعث الأول وراء إنتاج الصورة، سواء أدرك الإنسان ذلك أم لم يدركه حيث إن الفطرة لا تحتاج إلى هذا الادراك. ثمَّ يأتي الباعث الثاني وهو تلبية الحاجة البشرية للصورة سواءً في الزمن القديم أو الزمن الحديث. ولا شك أن كل تطوّر حضاري يصيبه الإنسان يدفع له ضريبة، وإن جاء هذا التطور للتكامل مع بقية التطورات في صناعةِ حياةٍ أجمل وأكثر سعادة. والصورة بوصفها أحد التطورات التكنولوجية في هذا العصر استطاعت أن تتحول إلى ثقافة، وأن تتغلغل في العقل الاجتماعي وتعيد تكوينه حسب رؤيتها حتى أصبحت ثقافةً تنضوي تحت علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا، فتناولها الباحثون وأراقوا في سبيل توضيحها وشرحها ينابيع من الحبر والأفكار. وربما ذهب بعض هؤلاء الباحثين إلى القول بأن ثقافة الصورة أصبحت هي ثقافة العصر كله، ولا أرى شخصيا مبالغة في ذلك فالصورة أصبحت الأداة الناجعة في تشكيل مواقف الناس تجاه الأحداث الصغرى والكبرى في حياتهم الخاصة والعامة، ابتداءً من شراء الحذاء إلى قضايا الحروب التي تعصف بالأرض. وفي إطار آخر ترى الشاعرة والناقدة د. صباح الدبي أن الحضور الطاغي للصورة أصبح واقعاً لا مناص منه لاسيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل الذي انخرطت من خلاله أشكال التواصل الإنساني في أحوال تفاعل مُركَّبة يستدعيها الثقل الدلالي والحيز الزمني والمنحى الجمالي المؤثِّث للصورة، هذا التعدد النوعي الذي تتناغم فيه الصورة والصوت والحركة جعل المادة البصرية تكثِّف كما هائلا من الدلالات، وتمس بشكل متكامل مختلف مناحي التلقِّي والإدراك والانفعال، فضلا عن كونها تتحرك بوثيرة تتناغم مع التسارع الزمني وتحقق المراد في أدنى حيِّز زمني متاح، ومن ثمَّة أضحى تأثيرها واضحا على المتلقِّي المعاصر الذي أصبح محكوما بتسارع وثيرة الحياة، وبالكم الهائل من الأحداث المتسارعة والمواد المعروضة، إذ يصبح التعبير بالصور والفيديوهات والإيموجيس اختزالا للوقت وربحا لحيِّزه، وتكثيفا للمعاني والانفعالات، فضلا عن التحديث المتواصل الذي تخضع له هذه المكونات الرقمية، وما ينجم عن ذلك من إثارة للدهشة وتفتيق لعنصر المفاجأة، وتحفيز لانتظارات التلقي ولفضول المتابعين والمستعملين. إننا أمام طغيان هائل لثقافة الصورة وللمنحى الرقمي المؤسس لأشكال التتبع والتلقي، بل إن الفضاءات الرقمية والمنصات التواصلية أصبحت في كثير من الأحيان موجِّهة لشروط التلقِّي لاسيما ما يتعلق بحجم المادة المعروضة، وبالحيِّز الممكن لمتابعتها، فكل ما تجاوز قدرا محدودا من الحيِّز المتاح، وكل ما كان خاليا من التكوين البصري قد لا ينال حظه من المتابعة التي تظفر بها المادة البصرية المُثقلة بالمؤثرات، والمتناغمة مع وثيرة التلقِّي السريع الذي يفرضه التراكم المتواتر والسريع للمواد المعروضة، وقابلية المتابعة الجديدة المحكومة بهذا التراكم المتسارع، وبضيق الحيِّز الزمني، لكن رغم ذلك، لا يمكن الجزم بالأثر المباشر لهذا الاكتساح على تراجع الإقبال على الكتاب، فالأمر راجع لشروط بنيوية ترتبط بالمنظومات الثقافية والتعليمية والإعلامية، وبالبرامج الاستشرافية التي تضع على عاتقها مسؤولية التحفيز على الارتباط الحثيث بالكتاب والقراءة وما يستتبع ذلك من أثر بعيد المدى على تكوين الفرد وطاقته وقدراته المعرفية وشغفه بهذه الصداقة الحميمة مع الكتاب، فضلا عن استعدادات التلقي الجديدة التي تستدعيها وتيرة الحياة المتسارعة، ومن ثمَّة تظل الحاجة إلى علاقة القرابة مع الكتاب ضرورة نفسية وثقافية واجتماعية لا يمكن لهذه الآليات الرقمية الجديدة أن تكون بديلا عنها رغم اكتساحها، صحيح أن عناصر التكثيف والاختزال الزمني والتلقِّي السريع تمنح لهذه المادة البصرية حظَّها الوفير من الانتشار والتأثير، غير أنها لا يمكن أن تُغنِي عن الحاجة الماسة إلى المادة الكتابية المُدوَّنة على الورق، وما تختزنه من عمق ولذَّة وتحليل وبقاء، وإذا كان التعبير بالصورة وما يرتبط بها من مؤثرات هائلة استدعاها الانفجار التكنولوجي الرقمي قد أصبح واقعاً تستدعيه طبيعة العصر، فإن النقوش القديمة، وما تحفل به المدونات التاريخية من رسوم وصور تكشف عن الاستعداد الطبيعي للتعبير بهذا الشكل لدى الإنسان، إلا أن اجتماع الصوتي والبصري والتشكيلي والدلالي، كشف عن الأثر السريع والقوي لهذه الأشكال، وعن التطور الهائل والمُتجدِّد للثورة الرقمية في عالم الإنسان المعاصر.
مشاركة :