الصراع بين الميكروبات والإنسان صراع أزلي، فجائحة كورونا ليست هي الأولى التي تجتاح الكرة الأرضية ولن تكون الأخيرة، فما أن الإنسان موجود على الأرض فإن بقية الكائنات موجودة أيضًا، فمن حقها أن تعيش وتتكاثر وأن تأكل وتقتل، فهذه العلاقة مستمرة باستمرار الحياة، ربما وفي بعض الأحيان تنتصر الميكروبات بصورة أو بأخرى في وقت وزمان ما، فنسمع عن الأوبئة المختلفة مثل الطاعون وغيره من تلك الأوبئة التي اجتاحت البشرية في أزمة ما على مر التاريخ، ولكن وبعد جزئية من الزمن يقوم الإنسان من كبوته ليحارب وينتصر، وحتى هذا الانتصار فإنه محصور لزمن ووقت معين، إذ تأتي – ربما – جائحة أخرى بعد فترة لتقوض كل ما فعله الإنسان.وقد يصعب حصر كل الأوبئة التي اجتاحت الكرة الأرضية وخاصة منذ الأزمنة القديمة، إذ إن الإنسان لم يبدأ الحصر والإحصاء إلا في بعض العصور المتقدمة نوعًا ما، ولكن ما زالت الكثير من المؤشرات التي سُجلت – ربما – تعطينا بعض الأفكار عن الوضع الصحي في بعض العصور القديمة.ولقد حاول عدد من الباحثين حصر كل تلك الأوبئة، إلا أننا نعتقد أنها حتمًا ناقصة بصورة أو بأخرى، أو حتى إن بعض المؤرخين قام بتسجيل بعض أنواع الأوبئة التي أصابت الوطن الذي يعيش هو فيه أو بعض الدول المجاورة، وذلك بسبب القصور الشديد في منظومة التواصل التي كانت تعيق عملية التسجيل وموضوعية التسجيل وحصر انتشار الأوبئة، ولا ندعي أننا هنا سنستعرض كل تلك الأوبئة أو يمكن أن نأتي بأفضل الأرقام، إلا أننا سنحاول أن نستعرض بعضًا من تلك الأوبئة التي فتكت وكانت ذات تأثير بالغ في البشرية بقدر الإمكان بحسب الترتيب التاريخي.طاعون أنطونين (165 – 180 م) بدأت حالة الطاعون الأنطوني، أو كما تعرف بطاعون الأباطرة الأنطونيين، في عام 165 ميلادية، عندما اندلعت حالة مبكرة من مرض الجدري في الهون (مجموعة من الرعاة الرحل)، الذين نقلوا العدوى إلى الألمان، والذين بالتالي نقلوها إلى الرومان المنتشرين في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية.وشهد غالين، وهو طبيب يوناني، تفشي المرض وسجل أعراضه المتمثلة في الإسهال الأسود، الذي يشير إلى نزيف الجهاز الهضمي، والسعال المكثف، والنفس ذي الرائحة الكريهة، وطفح جلدي أحمر وأسود في جميع أنحاء الجسم. وقُدر إجمالي عدد الوفيات بنحو 5 ملايين أي حوالي ثلث سكان العالم المعروف آنذاك، كما دُمر الجيش الروماني. واستمر هذا الطاعون حتى عام 180 ميلادي تقريبًا، وأشار بعض المؤرخين إلى أن الإمبراطور ماركوس أوريليوس كان أحد ضحاياه.طاعون جستنيان (540 – 541 م) ظهر طاعون جستنيان أول مرة في مصر حوالي أواخر عام 540 ميلادية وربما أوائل عام 541م، ويعتقد أنه انتقل إليها من مكان مجهول، ثم انتقل عبر ميناء الإسكندرية إلى القسطنطينية (عاصمة الإمبراطورية البيزنطية) أو روما الشرقية في عهد الإمبراطور جستنيان، ولذلك أُطلق على الطاعون اسم (طاعون جستنيان) الذي أصيب هو أيضًا بالطاعون لكنه تعافى منه. كما امتد الطاعون إلى الإمبراطورية الساسانية ومعظم المدن المطلة على البحر الأبيض المتوسط. وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن طاعون جستنيان حصد أرواح من 30 إلى 50 مليون شخص أي حوالي نصف عدد سكان العالم آنذاك.لم يتخذ الناس آنذاك إجراءات حازمة ضد انتشار المرض الذي أصاب حتى حيوانات الشوارع ونفق منها الآلاف وأهمل الناس في دفنها بصورة سليمة مما أدى إلى تفشي الطاعون أكثر.وكان للطاعون تبعات اقتصادية كبيرة على مستوى العالم لتسببه في وقف حركة التجارة تمامًا بين المدن، كما أعاق جهود الإمبراطور جستنيان في توحيد أراضي روما الشرقية والغربية، وأضعف من قوة بيزنطة مما سهل على الدول الأخرى استرداد أراضيها منها بل والإغارة على أراضٍ جديدة وتأسيس دول وممالك جديدة.الطاعون (الموت الأسود) (1346 – 1350م) كان طاعون أو ما عُرف في ذلك الوقت (الموت الأسود) أخطر كارثة وبائية واجهتها البشرية في القرن الرابع عشر، وأكثر الأوبئة فتكًا وقدرة على الانتقال والانتشار، إذ انتقل بسرعة من الصين إلى الهند وآسيا الوسطى حتى اجتاح أوروبا وشمال إفريقيا.ظهر طاعون (الموت الأسود) عام 1331 في الصين وانتقل منها إلى آسيا الوسطى وشرق أوروبا والقسطنطينية ومنها إلى أوروبا والشرق الأوسط. وبحلول عام 1349 كان (الموت الأسود) قد تفشى في كل دول أوروبا ومدنها وحصد مئات الآلاف بل الملايين من السكان، وبحلول عام 1351 كان الوباء قد قضى على نحو نصف سكان أوروبا. وتذكر بعض المصادر أن عدد ضحايا الموت الأسود يقدر بحوالي 75 مليونًا إلى 200 مليون. وتسبب في تغيرات كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وفي تغيير التركيبة السكانية في أوروبا. كما أدى الموت الأسود إلى اختفاء طبقات اجتماعية كاملة من المجتمع الأوروبي.وحاولت بعض الدول مثل إسبانيا وهولندا مواجهة انتشار المرض وقامت بقطع أي اتصال بينها وبين الدول التي تفشى بها الطاعون وعلقت عمليات التبادل التجاري معها وهي خطوة أشبه بقيام الدول في يومنا الحالي بتعليق حركة الطيران من الدول الموبوءة وإليها ومنع مواطنيها من الدخول.كما لجأت إيطاليا وبالتحديد في فلورانسا إلى عزل المصابين في مكان واحد، وحجز السفن القادمة إليها مدة أربعين يومًا قبل السماح لها بالرسو في موانئها وإفراغ حمولاتها، في تطبيق أشبه بالحجر الصحي في يومنا هذا، وقد تمكنوا بالفعل من الحد من انتشار المرض إلى حدٍّ ما.وربما بسبب هذا الوباء فإن أي وباء يشبه الطاعون كان يطلق عليه منذ ذلك الحين بالموت الأسود، إذ أنه عندما انتشر الطاعون في القرون التالية مثل ما حدث بعد ثلاثة قرون أي بين عامي 1647 و1652 أطلق عليه نفس هذا الاسم، إذ اجتاح الطاعون إشبيلية وقضى على نحو 76.000 شخص أي حوالي ربع سكان الأندلس في ذلك الوقت. وكذلك فعل الطاعون الكبير في لندن، بين عامي 1665- 1666, حيث قتل 20% من سكان المدينة.ويُذكر أنه في العام 1903 تم توثيق أول وباء في تاريخ البحرين الحديث، إذ يقول مستشفى الإرسالية الأمريكية على موقعه إن الأمطار التي هطلت في مارس تسببت في زيادة حالات الحمى والالتهاب الرئوي والدفتيريا وبين أمراض أخرى وانتشار مرض الجدري، ثم مرض الطاعون الدملي. وتشير الوثائق إلى أن معظم المصابين بالطاعون الدملي يموتون خلال 48 ساعة من إصابتهم بالمرض. ومع البحث والتقصي وجدنا تاريخًا آخر لظهور المرض؛ إذ تقول المبشرة إميلي زويمر العاملة في الإرسالية إنه مع بدء القيظ هذا العام (1903)، وازدياد الحرارة ازديادًا ملحوظًا، وتحديدًا في شهر مايو، انتشر في البحرين مرض الطاعون. في عام 1905م رجع الطاعون للبحرين، بلغت فيه عدد الحالات بين المصابين الذين أدخلوا إلى المستشفى 400 حالة تصاحبها نسبة عالية من الوفيات. وفي عام 1907م بين شهر أبريل ويوليو حلَّ في البحرين وباء طاعون كارثي بلغ عدد المصابين فيه 3121 شخصا، مات منهم حوالي 1889, ولقد أطلق على هذا الوباء في البحرين وربما بعض دول الخليج (سنة الرحمة)، وذلك بسبب كثرة عدد الوفيات.الكوليرا الآسيوية (1816 – 1826 م) تسبب وباء الكوليرا الذي اندلع في آسيا وأوروبا في الفترة بين 1816 - 1826 في وفاة عشرات الآلاف من الناس، وكانت أكبر حالات تفشي الكوليرا في اليابان عام 1817, وفي موسكو عام 1826 وفي برلين وباريس ولندن عام 1831, وانتشر الوباء في الإمبراطورية العثمانية خلال حرب البلقان 1912 - 1913 وتسبب أيضًا في العديد من الوفيات.كما ضرب وباء الكوليرا العالم عدة مرات منذ القرن التاسع عشر بداية من دلتا نهر الغانج بالهند، وحصد أرواح الملايين حول العالم. وتعتبر منظمة الصحة العالمية أن موجة التفشي السابعة للمرض التي بدأت عام 1961 في جنوب آسيا، لا تزال مستمرة حتى الآن. وتشير بيانات المنظمة إلى وفاة نحو 3 آلاف طفل في اليمن بسبب الكوليرا منذ عام 2016. وطبقًا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية يُصيب وباء الكوليرا سنويًا 1.3 مليون إلى 4 ملايين شخص ويتسبب بمقتل 21 ألفًا إلى 143 ألفًا.وينتشر الكوليرا أكثر في البلدان والأماكن التي يعاني سكانها من سوء التغذية أو الأماكن الفقيرة التي تعاني من تلوث الأغذية والمياه، ويمكن مواجهته بتحسين الظروف المعيشية لهم ورفع جودة الخدمات الصحية.الإنفلونزا الإسبانية (1918 – 1919م) تُعد الإنفلونزا الإسبانية من أشهر الأوبئة في القرن العشرين وأكثرها حصدًا للأرواح، وتشير التقارير الى أنها ظهرت عام 1918 في أواخر الحرب العالمية الأولى لتضيف إلى العالم معاناة جديدة إضافة إلى معاناته ويلات الحرب. وتفترض بعض النظريات نشوء المرض بالصين وانتقاله منها إلى أمريكا الشمالية وأوروبا، إلا أنه لا يوجد أي دليل على ذلك. ولم تظهر أولى حالات الإصابة بالوباء في إسبانيا بل ظهرت في الولايات المتحدة أوائل عام 1918 ثم في أوروبا، إلا أن الرقابة على الصحافة آنذاك كانت تمنع نشر تقارير تتحدث عن انتشار الوباء لعدم تثبيط الروح المعنوية للجنود.وكانت الصحافة الإسبانية أول من تحدث عن الوباء في مايو 1918 باعتبارها دولة حافظت على مبدأ الحياد خلال الحرب ولذلك سُمي بالإنفلونزا الإسبانية على الرغم من أنه كان قد قتل حينها مئات الآلاف في دول أخرى. ولم يهتم العالم كثيرًا بالوباء بسبب انشغالهم بأمور أخرى في أعقاب الحرب فضلاً عن تضرر المنشآت الصحية ووفاة آلاف الأطباء في الحرب.حصدت الإنفلونزا الإسبانية أرواح 50 مليون شخص على الأقل حول العالم وأصابت نحو نصف مليار إنسان وساعد في انتشاره أكثر عودة الجنود المصابين بالوباء من الحرب إلى مدنهم وقراهم، وكانت معدلات الوفاة في إفريقيا والأماكن الفقيرة أعلى من الأماكن الغنية التي تتوافر بها رعاية صحية مناسبة.وعلى عكس أنواع الإنفلونزا الأخرى تميزت الإنفلونزا الإسبانية بقدرتها على إحداث مضاعفات مميتة فيمن أعمارهم أقل من 45 سنة. وتشير الإحصائيات إلى أن 99% من الوفيات كانت في أشخاص أعمارهم أقل من 65 سنة، وأكثر من نصف الوفيات كانت في المجموعة العمرية ما بين 20 - 40 سنة. وكان السبب الرئيسي للوفاة هو الاختناق نتيجة نزيف رئوي أو التهاب رئوي ثانوي. ويرى البعض أن سبب المناعة لدى كبار السن ضد الإنفلونزا الإسبانية يعود إلى تعرضهم للإنفلونزا الروسية عام 1889 مما أكسبهم مناعة جزئية ضد الفيروس.فيروس كورونا (كوفيد 19)ظهر الفيروس في ووهان /الصين، في أواخر عام 2019. وقد انتشر النوع الجديد من فيروس كورونا، الذي يعطي أعراضًا مثل الحمى الشديدة والسعال والالتهاب الرئوي اللاحق، بسرعة وأثر على العالم بأسره. ومع ذلك يعدُّ فيروس كورونا الجديد بالمقارنة بالأمراض المعدية المميتة التي حدثت في الماضي بعيدًا عن حد الخطورة أو الفتك الذي وصلت اليه سابقاته. إذ بلغ حد الوفيات بفيروس كوفيد-19 إلى الآن نسبة 3.4%، لكن ما يجعله خطرًا هو حقيقة أنه ينتشر كالنار في الهشيم، كما أن هناك مخاوف من عدم الإبلاغ عن عدد الإصابات الحقيقية.ويستمر الصراع بين الإنسان والكائنات الدقيقة، ولن ينتهي هذا الصراع، إذ بعد أن تنتهي كورونا يمكن أن تعود الأمراض في صورة أخرى وبطرق أخرى، ويموت البشر، ويعيش بشر وتظل الكائنات الدقيقة موجودة على الأرض إلى الأبد.Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :