أظهرت جائحة كورونا التي ضربت الأردن والعالم كله نقاط قوة في الدولة الأردنية لم تكن واضحة بما فيه الكفايه والتي يمكن البناء عليها لتقوية مناعة الدولة في المستقبل. ومن نقاط القوة هذه قدرة مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة على العمل المشترك والتنسيق فيما بينها بدرجه عالية من الموثوقية، والمرونة العالية في العديد من القرارات والإجرآت، وإدامة عمل مؤسسات الدولة بدرجه عالية من الكفاءة وبعدد لم يتجاوز نصف عدد الموظفين الحكوميين، كما تواصل تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين والمؤسسات والشركات بدون انقطاع وتزويد الأفراد والأسواق بكافه المستلزمات الأساسية للعيش. كما أظهرت الدولة قدره عالية جداً في المراحل الأولى لإنتشار الجائحة إلى درجة أنها سجلت أفضل المؤشرات إقليمياً ودولياً في احتواء الفيروس. وفوق ذلك كله أظهر الشعب الأردني بكافة فئاته درجة عالية من التكاتف والتضامن من أجل الصالح العام، وتجلى ذلك في أبهى صورة في قبول الجميع من القطاعات المدنية والعسكرية وقف العلاوات والبدلات لأشهر طويلة لأجل الصالح العام دون أن يؤدي ذلك لأي مظهر من مظاهر الاختلال الأمني أو الاجتماعي. كما لم يقع أي شكل من أشكال الرعب المالي، بل على العكس زادت موجودات البنوك ولعب البنك المركزي دوراً مميزاً في دعم الشركات والقطاعات الأكثر تضرراً من الجائحة.وبنفس الوقت أظهرت الجائحة نقاط ضعف في إدارة الدولة، وهنا أمر طبيعي نظراً للدرجة العالية من المباغتة للفيروس التي واجهت الدولة كسائر دول العالم، قويها وضعيفها، غنيها وفقيرها، ومنها ضعف البيانات المتوفرة وعدم ملائمة بعضها لعمليات صناعة القرارات السريعة اللازمة لإدارة الأزمات، ناهيك عن ضعف تحليلها بطريقة تدعم اتخاذ القرار الأمر الذي استدعى في بعض الأحيان اللجوء للتجربة والخطأ وتعديل المسارات بشكل متكرر، وانطبق ذلك بشكل واضح في القطاعات الأكثر حساسية كالصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والنقل والتزويد. كما شكل عدم وجود خطط واضحة لإدارة المخاطر المؤسسية ودور أجهزة مؤسسات الدولة فيها تحديداً نقطه ضعف أخرى، وشكل ضعف البنية الالكترونية وعدم جاهزيتها بدرجه كافية لإدامة العمل عن بعد، وعدم وجود أدلة واضحة لهذا النوع من العمل تحدياً واضحاً، إلا أنه تم التمكن من معالجة هذا الأمر بدرجة مقبولة وبزمن قياسي، ألا أن ذلك يجب أن لا يخدعنا لأننا بحاجة ماسة لتطوير هذا الجانب من عمل الإدارة الأردنية بشكل أكثر فاعلية واستدامة خاصة وأن التقارير الدولية أظهرت مؤخراً تراجع الأردن بشكل مقلق. كما أدت سياسات الإسراع والتساهل في فتح القطاعات والمعابر بالتزامن مع ضعف الإمكانات للجوء لمقاربة شاملة في مواجهة الجائحة إلى تفاقم حالات الإصابة وتراجع المكتسبات التي تحققت سابقاً. إن الحكمة تقتضي الآن أن توجه السياسات العامة، أكثر من أي وقت مضى، إلى تحويل التحديات التي واجهتها الدولة إلى فرص جديده للمستقبل، ولذا يجب البناء على نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف وتحويلها لصالح خدمة الدولة والمجتمع. إن الجائحة ستزول وتذهب يوماً ما، وإذا لم نتعلم من الدروس التي خلفتها وعاد العمل كالمعتاد فتلك ستكون بمثابة نكسة كبرى للإدارة الأردنية.إن هناك ستة إصلاحات ضرورية برأيي يجب البدء بإجرائها دون تأخير:1.بقيت مؤسسات وأجهزة الدولة تعمل لسنوات طويلة بشكل منعزل عن بعضها إلى حد بعيد وبتنسيق ضعيف فيما بينها ومع القطاع الخاص والمدني، إلا أن اللجان التنسيقية القطاعية التي شكلتها الحكومة لمواجهة الجائحة في بداية الأزمة أدت أدواراً مهمة في تحسين وتطوير ملائمة السياسات والتكامل التشغيلي وتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع، مما يعني بل يحتم إجراء إصلاحات عميقة وجذرية في الحوكمة والإدارة العامة وطريقة اشتغال الدولة، ليس لمواجهة أي كوارث في المستقبل فحسب، بل لتحسين وتجويد وزيادة فاعلية الحكومة على المدى البعيد.2.أظهرت الجائحة أن هناك حاجة ملحّة للعمل القطاعي المشترك والمنسق كما أظهرت أن هناك مؤسسات في الدولة ذات حيوية وأهمية بالغة يجب تقويتها ودعمها، وبنفس المقدار بدا واضحاً أن بعض المؤسسات والدوائرشكلت عبئاً زائداً على الإدارة الأردنية وأن عملها يتقاطع بشكل واضح مع دوائر ومؤسسات أخرى، وبدا واضحاً كذلك أن عصب الدولة يقوم على أكتاف عدد محدود من الموظفيين الفاعلين والمنتمين وذوي الكفآت العالية، ولذا لابد أن يكون ذلك دافعاً لإجراء إصلاح عميق للقطاع العام وإعادة الهيكلة الحقيقية وزيادة كفاءة وفاعلية أجهزة الدولة. إن إصلاح القطاع العام لم يعد ترفاً فكرياً بل حاجة ملحة، ولذا يجب أن يحكمة إطار قانوني وإجراءات قوية ومستدامة لا تتغير بتغير الحكومات والمسؤولين، ولا بد من توفر نظام حوكمة ثابت وموحد ومنسق للمؤسسات والدوائر التي يتكامل عملها معا كالدوئر المعنية بالصحة والتعليم والتدريب والخدمات الاجتماعية والاسثتمار.3.ظهر جلياً من التعامل مع الجائحة وجود حاجة أساسية لخفض النفقات وإعاده توجيهها للخدمات الحيوية بالتماشي مع إصلاح القطاع العام وإعادة الهيكلة، ليس ذلك فحسب، بل أصبح من الضروري زيادة فاعلية الإنفاق وملائمة التخصيصات المالية. فالغذاء والدواء والتعليم ورعاية الضعفاء والأكثر عرضة للخطر هي أولويات لا يمكن إغفالها، لا في أوقات الشدة ولا في أوقات الرخاء، ولذا فإن أي مبلغ ينفق عليها هو استثمار في المستقبل وليس نفقة غير مستردة. إن الجائحة يجب أن تشكل حافزاً إضافياً للحد من التكاليف التي لا لزوم لها وخفض النفقات وزيادة كفاءتها.4.من الواضح أن التعليم والعمل الهجين الذي يمزج الوجاهي وعن بعد سيكون النمط السائد في المستقبل، وعليه فإن الحاجة للحكومة الألكترونية وتطوير آليات وإجراءات العمل والتعلم عن بعد هي حاجة ملحّة لزيادة فاعلية العمل وتحسين كفاءة استخدام المال العام وتوفير النفقات، وبالتالي يجب النظر إلى موضوع الحكومة الألكترونية لا كخيار تفاخري بل كحاجة ملحة لإصلاح القطاع العام وتطوير حوكمة وإدارة مؤسسات الدولة.5.فاقمت الجائحة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالفقر والبطالة خاصة بعد أن أدت إلى انضمام فئات جديدة إلى قائمة الفقراء والمتعطلين عن العمل التي كانت مقلقة أصلاً، ويستدعي هذا الأمر مقاربة مختلفة للتعامل مع هذه الآثار. وعليه فإن على الدولة تسخير أفضل العقول الاقتصادية والاجتماعية لوضع الحلول المناسبة خشية أن يمهد هذا الأمر إلى تجذر حالة الإحباط وفقدان الأمل اللذان يمهدان لمختلف أشكال التوتر والاضطراب التي سادت قبل عقد من الزمان.6.تشير الدلائل المتوفرة أن أثر الجائحة المباشر سيبقى معنا لفترة أطول مما توقعنا وأن أثرها غير المباشر قد يمتد لأعوام طويلة، ولذا فإن التعافي الكامل الاقتصادي والاجتماعي والنفسي سيأخذ وقتاً طويلاً ولذا فإن عقل الدولة سيحتاج إلى مزيد من الحكمة والإرادة والشجاعة والسياسات العامة الملاءمة والإصلاحات المؤسسية الجريئة لاحتواء هذه الآثار على المدى القصير والتعافي منها على المدى المتوسط والطويل، وفوق ذلك كلة ثمة حاجة لثقافة جديدة في الإدارة والحكم والتعامل مع الشأن العام.
مشاركة :