أكد مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إِفْ بِي آي) في 22 ديسمبر 2020 أن جماعات اليمين المسيحي المتطرف التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض كانت تخطط للقيام بعملية عسكرية كبرى، تتمثل في الهجوم على شبكات توزيع الكهرباء ومحطات توليد الطاقة في ولايات جنوب شرق أمريكا، وذلك في حالة خسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية. وجاء هذا التأكيد من مكتب الإف بِي آي استناداً إلى أقوال شاب مراهق لم يتجاوز من العمر 17 عاماً واثنين من زملائه من ولاية أوهايو، كما ورد في الاعترافات أن هذه المجموعة المتشددة العنيفة كانت تخطط لشراء مزرعة للقيام بالتدريبات العسكرية اللازمة لتنفيذ مثل هذا المخطط. كذلك قال بعض أفراد المجموعة إنهم «مستعدون للموت من أجل معتقداتهم»، وكانوا يخططون لإنشاء شبكة قومية ممتدة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي عبارة عن «خلايا نازية عسكرية» تُكلَّف بالقيام بمهمات تخريبية، وأطْلقتْ المجموعة على هذه العملية «انطفاء النور» (lights out) من خلال التخطيط لقطع الكهرباء في صيف عام 2021. وهذه المجموعة من جماعات تفوق العرق الأبيض واليمين المسيحي العنيف المتطرف لا تعمل لوحدها بشكلٍ منفرد بمعزل عن المجموعات الأخرى الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، أو في بعض الدول الأوروبية، أو الدول الأخرى. فهذا المخطط الإرهابي الذي كانت هذه المجموعة تريد تنفيذه ذكَّرني بمخطط هجومي آخر واسع النطاق كاد أن يُنفذ في ولاية ميشيجان الأمريكية، وكشف مكتب التحقيقات الفيدرالي النقاب عنه في أكتوبر من العام المنصرم.. فقد تم التخطيط لهذه العملية أشهرا طويلة من قبل عدة أفراد وجماعات يمينية متطرفة، منها مليشيا محلية مدججة بالسلاح تُطلق على نفسها «ولفرين واتشمين» (Wolverine Watchmen)، وكانت بمثابة انقلابٍ عسكري على حكومة ولاية ميشيجان. وكان المخططون ينوون القيام بعدة عمليات إرهابية عنيفة، إذ قاموا بتنظيم مخيمات عسكرية سرية للتدريب على المهمات والعمليات التي سيقومون بها في مناطق نائية من الولاية، ومن هذه العمليات خطف الحاكمة الديمقراطية للولاية جريتشن وايتمر (Gretchen Whitmer)، وحاكم ولاية فيرجينيا رالف نورثأم (Ralph Northam)، إضافة إلى قتل بعض «الطغاة» من المسؤولين الحكوميين، بحسب وصفهم، وزرع متفجرات تحت بعض الجسور، ثم إشعال نار فتنة الحرب الأهلية في البلاد، والقيام بتجنيد 200 من المسلحين لإتمام كل هذه العمليات. وبعد الإعلان رسمياً عن التخطيط لهذا الهجوم، قامت الجهات الأمنية المختصة -منها مكتب التحقيقات الفيدرالي- بتوجيه التهم إلى 14 فرداً من اليمين المتطرف، علماً بأن بعض هؤلاء المتطرفين أنفسهم اقتحموا بأسلحتهم النارية في الثلاثين من أبريل من العام المنصرم مبنى عاصمة الولاية في مدينة لانسينج احتجاجاً على إجراءات الولاية المتعلقة بمواجهة فيروس كورونا، ولكن لم يعتقلهم أحد، ولم توجه لهم أي تهمة!وهناك ثلاثة أسباب تدعوني إلى التحذير من تهديدات هذه الجماعات المنتشرة في ولايات أمريكية ودول أخرى منها أوروبية كفرنسا، وهولندا، وبريطانيا، ومنها غير أوروبية كأستراليا. أما السبب الأول فيتمثل في معتقداتهم المتطرفة مثل كُره الأجانب، وتحقير وازدراء الأقليات والأديان الأخرى، ومحاربة المهاجرين والتجنيس، ومحاربة حكوماتهم الاتحادية، إضافة إلى تبني وسائل وأدوات إرهابية عنيفة لتنفيذ هذه المعتقدات. والأمثلة التي يمكن تقديمها لبيان هذا التوجه كثيرة، منها قيام عضو من اليمين المسيحي المتطرف بتفجير مبنى اتحادي في أوكلاهوما بأمريكا في عام 1995 وقتل 168 وإصابة أكثر من 700، ومنها قتل 77 في النرويج في 2011، وقتل 51 في مسجدين في نيوزلندا في 2019، وقتل أكثر من 11 في مدينة ألباسو بولاية تكساس في 2019 في مجمع وال مارت، وقتل مجموعة في معبد لليهود في 2018، إضافة إلى قتل أعداد من المصلين في كنيسة للسود في مدينة تشارلستن في 2015. وأما السبب الثاني الخطير فهو وجود الغطاء السياسي الرسمي لهذه المعتقدات المتشددة والعنيفة، فهناك أحزاب حكومية معتمدة في بعض الدول تدعم مثل هذه المعتقدات والسياسات اليمينية، وتدافع عن أفرادها عند القيام بأي عمليات عنف وشغب، كما هو الحال بالنسبة للرئيس الأمريكي ترامب الذي كان يدافع عن هؤلاء اليمينيين المتطرفين وجماعات تفوق العرق الأبيض، مثل جماعة «الأولاد الفخورون» (Proud Boys)، الذين كانوا يخرجون في مظاهرات وهم مدججون بالسلاح ويرتدون ملابس واقية ضد الرصاص وكأنهم سيخوضون معركة عسكرية محتدمة، كما أنه كان يتردد دائماً في انتقادهم وتوجيه اللوم لهم عند قيامهم بأعمال عنف وإرهاب مهما بلغت درجتها، وقد ثبت أنهم شاركوا في اقتحام الكونجرس الأمريكي يوم 6 يناير الجاري. وأما السبب الثالث فهو تغلغل اليمين المتطرف في أجهزة أمن الدول، سواء الشرطة أو الجيش، وهناك الكثير من التقارير التي أثبتت هذه الظاهرة المتعمقة في بعض الدول مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، نُشر مقال في المجلة الأمريكية «شؤون خارجية» في 15 ديسمبر 2020، تحت عنوان: «عندما يتغلغل اليمين المتشدد في أجهزة منفذي القانون»، كما نُشر كتاب في 27 أكتوبر 2020 عنوانه: «كراهية في أرض الوطن: اليمين المتطرف الدولي الجديد». فهذا الكتاب يفتح الأعين غير المبصرة، والآذان التي لا تسمع، والقلوب التي ران عليها غشاوة كثيفة فلا تعي ولا تدرك الواقع من حولها، ويؤكد حقيقة أن جماعات اليمين المسيحي المتطرف ليست محلية في بعض دول العالم، وإنما تحولت إلى ظاهرة عالمية متفاقمة وسرطان خبيث يجري في شريان بعض المجتمعات، نشهدها في الكثير من الدول، ولها أذرع سياسية توفر لها الغطاء الشرعي اللازم، وتدافع عنها، وتبرر أعمالها ومواقفها، كما أن لها أجنحة عسكرية تقوم بحمايتها وهي متغلغلة في صفوف رجال الشرطة وأجهزة الأمن الأخرى، ومتعمقة في مراتب الجيش العليا. كذلك يُحذر الكتاب من تفاقم قدرات وقوة وأعداد أعضاء هذه الجماعات، وقيامها بشكلٍ منهجي بتجنيد الشباب في الجامعات والأندية الرياضية ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وتوجيههم نحو الكراهية والعنف وتنفيذ أجنداتهم المتطرفة وحركتهم العنيفة. وهذا الكتاب القيِّم يحتوي على 223 صفحة ويقع في ستة فصول، الفصل الأول حول جماعات اليمين المتطرف من حيث وجودها الجغرافي وهيمنتها وقوتها على الساحتين السياسية والأمنية، والفصل الثاني يتحدث حول تحول هذه الجماعات من مجموعات مهمشة في المجتمع إلى أحزاب رئيسة وقوية لها وجود مشهود في البرلمانات الشعبية، وتمثيل في الحكومات، وتتناول الفصول الأخرى بالتفصيل تجنيد الشباب وغسل أفكارهم وتغيير مواقفهم، إضافة إلى الوسائل والأدوات المستخدمة لتحقيق أهدافهم.مثل هذه التقارير العلمية والكتب الاستقصائية من المفروض أن نقف عندها كثيراً لنتعرف عن قرب على هذه الجماعات المسيحية المتطرفة والعنيفة التي أصبحت تهديداً إرهابياً حقيقياً وواقعياً ليس للدول التي توجد فيها هذه الجماعات والأحزاب التي تمثلها، وإنما لدولنا على حدٍ سواء.وربما ما يثبت أكثر واقعية هذه الدعوة التي أطلقها هو تحقيق اللجنة المختصة في نيوزلندا في الثامن من ديسمبر 2020 حول العملية الإرهابية التي قام بها مسيحي يميني متطرف، إذ أكد التحقيق أن الحكومة النيوزلندية كانت تركز في عملها على «التطرف الإسلامي»، وتجاهلت تطرف اليمين المسيحي المتطرف، ولذلك هذه كانت النتيجة. bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :