يجلس على حافة الرمل حيث تمتد أمامه قوافل السراب تتنافر كصغار الجراد فلا يحلم بشيءٍ إلى غديرٍ تعانق أطرافه البعيدة زرقة السماء.. وحوله الآن هذه الشجيرات الشاحبة تقع فوقها عصافير الحُصّد التي أنهكها الجوع والعطش فما هي إلا ريشٌ تحمله عظامٌ هشة وانية حتى كأنها توافدت للاحتضار والموت الجمعي... كنا نعرف ونشاهد طيور الحصد في مواسم حصاد الزروع ثم ما تلبث أن تعود إلى الفجاج والبراري الواسعة، وتراك تسأل ما الذي يجعل هذه الطيور مقيمة هاهنا مع أن لها أجنحة ترفعها إلى مجاري الريح فتنطلق في جماعات إلى هامات الأشجار وجداول الماء... ربما أنه عشق المكان وألفته. فللطيور أيضاً عاطفة حب المنازل والديار كما هي عند البشر. أذكر أننا في طفولتنا كنا نشاهد حينما تميل الشمس للغروب جموعاً ومحامل من العصافير تتجه للأشجار وهامات النخيل لتدخل في ملكوت نومها حتى مطلع الفجر فتغدوا صباحاً إلى تلك الحقول تبحث عن رزقها.. فلقد كان إيقاع الحياة جميلاً فللغروب معزوفته وللصباح نشوته وللحياة كلها إيقاعاتها -الوقتية- التي تجعل الإنسان منضبطا مع قانون الحياة اليومي متلهفاً إلى ذلك التراتب الجميل الأنيق، ولن أنسى أيضاً تلك الأماسي والعشيات عندما تنحدر الأغنام من الوادي مخلفة وراءها تلك الغلالة من الغبار الشفاف الرقيق، كان الزمن مسيطراً في نظامه على حياة الناس، ففي بدايات الصباح تدب الحركة وكل يذهب إلى سبيله وعمله وشأنه وعند الغروب كل يعود إلى أهله ومهجعه ولذا كان الناس أكثر نشاطاً وأكثر صحة نفسية وأكثر ارتياحاً وهدوءاً كانوا راضين عن حياتهم مرتبطين بها لا يشكون هموماً ولا قلقاً ولا مواجع نفسية، لهم طموحاتهم ولهم أحلامهم ولكنهم غير متعجلين يرضون بواقعهم الذي يعيشونه مع طموحاتهم واستبشارهم بالمستقبل الآتي. اليوم توفرت أسباب العيش والحياة ولكنها تعقدت وتلونت، فكثرت الهموم والمشاكل والتشاحن وأصاب بعض الأنفس الانزواء والانطواء على الذات وكل يقول: نفسي نفسي ومستقبلي مستقبلي.. وهذا شيء جيد ولكن الأجود منه سعادتي وانشراحي وراحتي، أما الذي سيأتي به المستقبل فما هو إلا المقدر المكتوب.
مشاركة :