ترتبط الحضارة الحديثة في جوهرها بالمدينة، حيث يعود ذلك في جزء كبير منه إلى الإبداعات الإنسانية منذ عصر النهضة، التي تعد أحد الأبناء الشرعيين للمدن، حتى وإن كان من قاموا بها هم أشخاص يعودون في أصولهم إلى الريف. وباتت المدن في معظم الاقتصادات الحديثة الفاعل الاقتصادي الأول على مستوى الدولة، ومنذ عام 2009 تعيش النسبة الأكبر من سكان العالم في المناطق الحضرية، ويعد حاليا ما يطلق عليها اسم "المدن العالمية" مراكز مهمة للاقتصاد الوطني، سواء بحسبانها نقاط ارتكاز لخدمات التمويل أو الابتكار أو القطاع الخدمي. وبالتالي فإن الدولة التي تتمتع بأكبر عدد ممكن من "المدن العالمية" تتمتع في الوقت ذاته بإمكانية الاستفادة الأكبر والأفضل والأسرع من التدفق الدولي لرأس المال والقدرات الإبداعية. تشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن الصعود المتزايد للمدن، يوجد موجة ضخمة من النمو، تجتاح عديدا من الاقتصادات النامية والناشئة على حد سواء. وبحلول عام 2025 سيكون عديد من أهم 600 مدينة في العالم، التي ستولد مجتمعة 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متركزة في القسم الشرقي من الكرة الأرضية، وتحديدا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ولن يقف الأمر عند المدن الضخمة المعروفة لدى الجميع، بل يتوقع نشوء سلالة جديدة من المدن متوسطة الحجم ديناميكية الأداء كمنصات ارتكاز أساسية لا غني عنها في النمو الاقتصادي العالمي. الصين نموذج جلي على هذا التطور، فالمدن الصينية التاريخية مثل بكين وشنغهاي تنمو بشكل ملحوظ، لكن الأهم ظهور مدن صينية جديدة لم تكن إلا قرى أو بلدات محدودة الإمكانات، وقد نجحت في العقدين أو الثلاثة الماضية في التحول إلى لاعب أساسي ومهيمن بشكل متزايد على التجارة الدولية. توضح الأرقام مدى التقدم الحضري في الصين خلال الـ30 عاما الماضية، ففي عام 1979 كان 18.6 في المائة فقط من سكان الصين يقطنون مناطق حضرية سواء كانت مدنا أو بلدات، وبحلول عام 2011 كان أكثر من نصف سكان الصين ولأول مرة في التاريخ يعيشون في المدن، والعام الماضي قفزت تلك النسبة إلى 61.4 في المائة. ولا شك أن تجربة التنين الآسيوي الاقتصادية والتصنيع واسع النطاق، وما استتبعه ذلك من جذب السكان من مناطق تركزهم الكبرى في الريف الصيني إلى المدن، كان العامل الأساسي في ظاهرة تنامي المناطق الحضرية في الصين. يضاف إلى تلك التحركات السكانية الضخمة، أن نمو المدن الصينية أسهم في جذب الطلاب والعمال من دول أخرى أقل نموا من الصين، ومثلت المدن عامل استقطاب للشركات الدولية العملاقة، لفتح مكاتب لها فيها للوصول بشكل أفضل إلى السوق الصينية الواسعة، ونتيجة لذلك أصبحت المدن إحدى البوابات الرئيسة لتفاعل الصين مع العالم الخارجي. وهنا ذكرت لـ«الاقتصادية» الدكتورة جورجي بلير الخبيرة في مجال المدن والتنمية الحضرية، "عادة تفتخر الدول ذات الكثافة السكانية الأكبر بتمتعها بعدد أكبر من المراكز الحضرية، ولذلك نجد أن الدول المكتظة بالسكان مثل الصين والهند والولايات المتحدة لديها أكبر عدد من المدن، والعام الماضي احتلت الصين المرتبة الأولى من حيث عدد المدن العالمية ومن بين 125 مدينة عالمية كان لدى الصين 18 مدينة، وجاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بـ14 مدينة والهند الثالثة بسبع مدن". لكنها تضيف، "رغم وجود عدد من المدن العالمية في الصين أكثر من غيرها من الدول فإنه وفقا للنوعية فإن المدن العالمية في الصين تحتل مرتبة أدني مقارنة بتلك الموجودة في الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا على سبيل المثال". وفي الواقع فإن مدن الصين العالمية تدين لموقعها هذا إلى المستويات العالية من نشاطها التجاري، وبعض تلك المدن مثل بكين وشنغهاي وهونج كونج كانت تقليديا بمنزلة مراكز تجارية مزدهرة حتى قبل برنامج الإصلاح الاقتصادي الصيني، لكن نجاح التجربة الصينية اقتصاديا أسهم في نمو مدن مثل شينزين ووهان وهانجتشو وسوجو. بدوره، قال لـ"الاقتصادية"، الباحث في الشأن الصيني أندي ميجر، "نمو المدن الصينية الجديدة هو نتاج سياسة حكومية متعمدة، فالحكومة الصينية عندما بدأت برنامج الإصلاح الاقتصادي في السبعينيات حددت أربع مناطق – شنتشن وتشوهاي وشانتو وشايمن – بحسبانها مناطق اقتصادية خاصة، وسمح لتلك المناطق بتبني سياسات اقتصادية تحررية مختلفة عن السياسات الاقتصادية ذات الطابع المركزي في المناطق الأخرى من الصين، إذ سمح لها على سبيل المثال بتلقي الاستثمارات الأجنبية، وتخفيف ضوابط الأسعار، ومع نجاح تلك التجربة توسعت الصين في المناطق الاقتصادية الخاصة التي قفزت عام 2019 إلى 2543 منطقة خاصة أي نحو 47.2 في المائة من إجمالي المناطق الخاصة في العالم، مقارنة مثلا بالهند التي لا يتجاوز عدد المناطق الخاصة فيها 373 منطقة". ويضيف "نمو تلك المناطق في الصين أتاح فرصة ذهبية لتطوير عدد من البلدات إلى مدن وتطوير بعض المدن الصغيرة إلى مدن حديثة للغاية". وفي الحقيقة فإن البلديات الصينية لعبت دورا مهما في تطوير مدنها بجعلها مناطق جذب للشركات متعددة الجنسيات، بما قدمته لها من حوافز إضافية مثل خفض الضرائب، وإعانات الإيجار، والسياسات التفضيلية لموظفي الشركات الدولية الكبرى. ومع تدفق النشاط التجاري والصناعي إلى المدن الصينية خاصة مع تنامي الصناعات الإلكترونية في الصين في الأعوام الأخيرة، زاد بشكل كبير الحجم الاقتصادي للمدن الصينية، فمدينة مثل شنغهاي ضمت في آذار (مارس) الماضي 730 مقرا إقليميا للشركات الأجنبية. وبلغ إجمالي الناتج المحلي للمدينة عام 2019 ما يزيد قليلا على 552 مليار دولار أي ما يزيد على الناتج المحلي الإجمالي لدولة مثل تايلاند، أما العاصمة بكين حيث يقع المقر الرئيس لـ43 في المائة من 124 شركة صينية مدرجة ضمن أهم الشركات العالمية، فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لها 512 مليار دولار أي ما يعادل الاقتصاد البلجيكي، أما أكبر ثلاث مدن صينية بعد شنغهاي وبكين هي شينزين وهونج كونج وقوانجتشو فقد بلغ الناتج المحلي لكل واحدة منها 390 مليار دولار و366 مليار دولار و342 مليار دولار على التوالي. من جانبه، يقول الدكتور لي ستيوارت أستاذ التنمية العمرانية في جامعة جلاسكو، "ضخامة المدن الصينية لا يعني أنها الأضخم اقتصاديا، فعلى سبيل المثال مدينة نيويورك بمفردها يقارب ناتجها المحلي الإجمالي كل من الناتج المحلي الإجمالي لبكين وشنغهاي مجتمعتين، إذ بلغ نحو 1.86 تريليون دولار عام 2019 أي أكبر من الناتج القومي الإجمالي للبرازيل تاسع أكبر اقتصاد في العالم". إدراك الصين لجوانب القصور تلك في "مدنها العالمية" دفعها إلى أن تظهر في الأعوام الأخيرة مزيدا من الاهتمام بأن تبرز مدنها كمراكز عالمية في مجال الابتكارات العلمية والتكنولوجية، ووفقا لمؤشر الابتكار العالمي لعام 2020 الذي يصنف مجموعات المدن بناء على إنتاجها من براءات الاختراع والمنشورات العالمية، فإن اثنتان من أكبر خمس مجموعات ابتكار في العلوم والتكنولوجيا على المستوى العالمي توجد حاليا في الصين، وقد جاءت مجموعة هونج كونج- شينزين – جوانزو في المرتبة الثانية بعد مجموعة طوكيو- يوكوهاما اليابانية وتفوقت على سيئول عاصمة كوريا الجنوبية، في الوقت نفسه احتلت بكين المرتبة الرابعة في القائمة. مع هذا يعتقد بعض الخبراء في الشأن الصيني أن هذا الإنجاز يعكس في جزء منه مشكلة احتكار "المدن العالمية" الصينية لثمار التنمية، وأنه بدلا من أن تتحول تلك المدن إلى قاطرة لجذب كل المجتمع الصيني للأمام، فإنها تعمل على الحفاظ على مكانتها المميزة على حساب غيرها من المدن والبلدات الصينية الأصغر حجما. من ناحيتها، قالت لـ"الاقتصادية" الدكتور جيني ماك ريك أستاذة التنمية الاقتصادية في المعهد الدولي للتنمية، "يتركز البحث والتطوير العمود الفقري للابتكار بشكل كبير في عدد محدود للغاية من المدن الصينية، فثلاث مدن فقط، بكين وشنغهاي وشنتشن تحتكر تقريبا ربع إجمالي إنفاق الصين على البحث والتطوير، وتتمتع بمستويات أعلى من كثافة البحث والتطوير مقارنة بغيرها من المدن الصينية، ففي بكين نجد أن الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة مئوية من الناتج الاقتصادي بلغ ثلاثة أضعاف المتوسط الوطني، وفي شنغهاي 1.8 ضعف المتوسط الوطني". وتلقي الدكتورة جيني ماك ريك باللائمة إلى حد كبير على الحكومة الصينية عبر تركيزها مؤسسات التعليم العالي في البلاد التي تسهم بأكثر من 7 في المائة من إجمالي البحث والتطوير في الصين في المدن الكبرى، فمن 50 جامعة صينية تصنف ضمن أعلى الجامعات الصينية في المستوى التعليمي، توجد 12 في بكين و7 في نانجينج و5 في شنغهاي و4 في ووهان، وهو ما يوجد من وجهة نظرها نخبة تعمل على الحفاظ على المكانة المميزة لمدنهم، والهيمنة على الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي والعلمي في الصين، للحفاظ على مكانة مدنهم كمدن عالمية في ضوء المنافسة الشرسة على المستوى الدولي بين تلك المدن.
مشاركة :