غرفة صغيرة بأرضها ثقوب، تهبط من خلال فتحاتها، المياه، بها حوضين، ومكان فضاء، يوضع به حامل الموتى، تعلوه جثة هامدة ليس لها حول ولا قوة، تُحركها أيدي المُغسل كما يشاء، وروحها بين أيادي الرحمن، هكذا هي مغسلة المتوفين بأحد مستشفيات محافظة سوهاج أقصى جنوب الصعيد.أحببت أن أغسِّل إحدى المتوفيات بفيروس كورونا المستجد- والحديث هنا على لسان مراسلة "صدى البلد"-؛ أولًا حبًا في أخذ ثواب غُسلها، حيث لم تجد حفيدتها أحدًا يقبل بتغسيلها، وثانيًا لتجربة شعور المُغسل الذي يتعرض يوميًا لذات المشهد المؤلم، كيف لهذا الرجل أو السيدة أن يرتكبوا معصية أو يقترفوا إثمًا ما وهم يرون في يومهم أكثر من إنسان وقد فَنَى ولم يتبق منه سوى جسده الذي تحركه يديك كما تشاء؛ كي تنظفه وسلمه إلى مثواه الأخير؟.وبمجرد وصولي إلى باب الغرفة التي يتم غُسل الموتى بها بإحدى مستشفيات سوهاج المُخصصة لعزل مُصابي فيروس كورونا المستجد، أصبحت خطواتي بطيئة جدًا دون إرادة مني، تراجعت قليلًا ثم تذكرت أمي التي لا أريد أن يتكشف جسدها على أحد ما سواي وشقيقتي الصغرى، ولكني لم أتمن أن يأتي عليَ ذلك اليوم أبدًا، ولكن أعمارنا بيد الله وحده، ولا نعلم أي منا سيُفارق أولًا.وقفت أعلى عتبة باب المغسلة خلف إحدى الممرضات التي كانت مترددة ويتملك الخوف منها بشدة، شاهدت لأول تارة في حياتي سيدة مُلقاة أعلى شيزلونج حديدي "حامل الموتى" ليتم غُسلها عليه، فخطف قلبي رؤيتها بهذا الوضع، كيف لابنتها وحفيدتها تركها هكذا؟، كيف سمحت لهما أنفسهما أن يتركوها دون الوداع الأخير؟.كان يؤسفني حالها جدًا، فكتمت أوجاعي للحظة، وتذكرت أنني ذات يوم سأكون مثلها لا حول لي ولا قوة سأكون كقطعة قماش يُحركها الأخرين كما يشاءون، كنت أردد أستغفر الله العظيم وأتوب إليه أستغفر الله العظيم وأتوب إليه اللهم لا تقبض روحي إلا وأنت راضي عني تمام الرضاء، وخبأت تلك الدموع المُتقطرة على وجهي أسفل الواقي الذي كنت ارتديه ضمن الإجراءات اللازمة لتلاشي عدوى الفيروس.لم يكن خوفي من العدوى قد جاء بعقلي أبدًا بل كان كل تفكيري بهذه السيدة، وما تراه روحها الآن فنحن لا نعلم سوى أنها عانت كثيرًا قبل وفاتها بسبب إصابتها بكورونا، وأخذت ادعوا لها ألا تُعذب روحها مثل جسدها الذي يظهر عليه المرض الشديد، وكانت بقايا القطن بعرق كف ذراعها الأيسر، فأمددت يدي ورفعت تلك البقايا عنها.بجوار الثعابين والعقارب.. مأساة أطفال وأسر عشش البلينا بسوهاج .. فيديوصوتًا يُناديني فيأخذني من أفكاري فهي إحدى المتطوعات لغُسلها معي التقطت الكيس الذي به الكفن وما معه من صابون وغيره من مستلزمات الغُسل لتأخذنا رحلة الغُسل الطويلة رغم قِصر وقتها ألا وهو دقائق ولكنها مرت كسنوات مريرة، وعقب النهاية من غُسلها، وخروجنا من تلك الغرفة قاتمة اللون رغم ألوانها الفاتحة، وأغلقت الباب من وراءنا وأخذت صديقتي تُلهيني بالحديث معها كي أنسى ما شهدته.صحوت لنفسي عقب ذلك، وأدركت خير إدراك أنها فانية، وانني سأصبح وحيدة لا مؤنس لي سوى عملي، ولا منجد لي سوى قلب بشخصً طيب، رزقه الله لين القلب، وهداه إلى الدعاء لي، أو التصدق عليَ أو ما شابه ذلك، تغيرت كثيرًا وأخذت افكر فقط بالله وما يرضيه وتركت الدنيا خلفي وركزت أكثر بعملي، كيف حال المُغسل الذي يفعل ذلك يوميًا هل يُخطأ أم يتذكر تلك المشهد فيرد إلى صوابه؟.
مشاركة :