يسهر الشعراء وينام القمر

  • 1/21/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يسهر الشعراء وينام القمر رباح آل جعفر‏في‭ ‬كتاب‭ “‬الإمتاع‭ ‬والمؤانسة‭” ‬يحصي‭ ‬لنا‭ ‬أبو‭ ‬حيان‭ ‬التوحيدي‭ ‬مغنيّات‭ ‬بغداد‭ ‬أيام‭ ‬العباسيّين‭ ‬بأربعمائة‭ ‬وستين‭ ‬جارية‭.. ‬وكان‭ ‬زرياب‭ ‬البغدادي‭ ‬أوّل‭ ‬سفير‭ ‬للأغنية‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس‭. ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬بتعليم‭ ‬أوربا‭ ‬الموسيقى‭ ‬والأنغام،‭ ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬يعلّم‭ ‬أهلها‭ ‬آداب‭ ‬الأكل‭ ‬بالشوكة‭ ‬والسكين،‭ ‬وكيف‭ ‬تضع‭ ‬السيدات‭ ‬الجميلات،‭ ‬المناديل‭ ‬المعطرة‭ ‬الملوّنة،‭ ‬المصبوغة‭ ‬بأحمر‭ ‬الشفاه‭ ‬في‭ ‬جيوبهن‭.‬‏والأديب‭ ‬الانكليزي‭ ‬سومرست‭ ‬موم،‭ ‬والأديب‭ ‬الإيطالي‭ ‬ألبرتو‭ ‬مورافيا،‭ ‬والأديب‭ ‬الفرنسي‭ ‬أندريه‭ ‬جيد،‭ ‬والأديب‭ ‬الأميركي‭ ‬وليام‭ ‬فوكنر،‭ ‬لم‭ ‬يقرأوا‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬صفحة‭ ‬واحدة‭ ‬غير‭ ‬كتاب‭ “‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭”.‬‏والشعراء‭ ‬كتبوا‭ ‬دواوين‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬تتغزل‭ ‬بالقمر‭. ‬والعشاق‭ ‬بالغوا‭ ‬في‭ ‬تشبيه‭ ‬حبيباتهم‭ ‬بالقمر‭. ‬وهناك‭ ‬حكاية‭ ‬تقول‭: ‬إن‭ ‬برج‭ ‬بابل‭ ‬أسقطه‭ ‬القمر‭!‬‭.‬‏وعندما‭ ‬أقسم‭ ‬روميو‭ ‬أنه‭ ‬سيحفظ‭ ‬الحبّ‭ ‬قال‭ ‬لجوليت‭: ‬أقسم‭ ‬بالقمر‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬يشبهك‭. ‬ثمّ‭ ‬اكتشف‭ ‬العلماء‭ ‬أن‭ ‬القمر‭ ‬تراب‭ ‬بلا‭ ‬ماء،‭ ‬وأن‭ ‬الكلاب‭ ‬لا‭ ‬تنبح،‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬يشع‭ ‬نور‭ ‬القمر،‭ ‬الذي‭ ‬يسهر‭ ‬في‭ ‬ضوئه‭ ‬الشعراء،‭ ‬والعشاق‭ ‬من‭ ‬المجانين‭!. ‬‏وكان‭ ‬صديقنا‭ ‬الشاعر‭ ‬الرقيق‭ ‬قيس‭ ‬لفتة‭ ‬مراد‭ ‬يتلذذ‭ ‬مرة،‭ ‬ويتأفّف‭ ‬ألف‭ ‬مرة‭ ‬على‭ ‬هاتيك‭ ‬اللآلئ‭ ‬المتناثرة‭ ‬في‭ ‬الليالي‭ ‬المجنونة‭ ‬القمراء،‭ ‬والقبلات‭ ‬العميقة،‭ ‬وهو‭ ‬القائل‭: (‬ولا‭ ‬مَرهمْ‭ ‬بعد‭ ‬يَرهم‭ ‬ولا‭ ‬كَعدات‭ ‬كَمريّة‭).‬‏وفي‭ ‬ليلة‭ ‬مقمرة‭ ‬قصدت‭ ‬مجلس‭ ‬شيخ‭ ‬بغداد‭ ‬الدكتور‭ ‬حسين‭ ‬علي‭ ‬محفوظ،‭ ‬وحين‭ ‬أدركنا‭ ‬النعاس،‭ ‬قلت‭ ‬لمحفوظ‭: ‬إن‭ ‬الشاعر‭ ‬سعدي‭ ‬الشيرازي‭ ‬عاش‭ ‬مائة‭ ‬سنة،‭ ‬ولمّا‭ ‬سُئل‭ ‬عن‭ ‬عمره‭ ‬الطويل‭ ‬كان‭ ‬جوابه‭: ‬أحببتُ‭ ‬كثيراً،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬كالسّهر‭ ‬يطيل‭ ‬العمر،‭ ‬فالمحبّون‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬النوم‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬اليقظة‭. ‬يومها‭ ‬ابتسم‭ ‬محفوظ‭ ‬ملء‭ ‬شفتيه،‭ ‬وأنشدني‭ ‬قول‭ ‬عمر‭ ‬الخيّام‭: ‬فما‭ ‬أطـال‭ ‬النــوم‭ ‬عـمراً‭.. ‬ولا‭ ‬قصّر‭ ‬في‭ ‬الأعمار‭ ‬طول‭ ‬السّهر‭!.‬‏وفي‭ ‬بيت‭ ‬محفوظ‭ ‬رأيت‭ ‬العجب‭. ‬وجدت‭ ‬مكتبة‭ ‬فريدة‭ ‬عصر،‭ ‬وفريدة‭ ‬دهر،‭ ‬لم‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬خزائنها‭ ‬عين‭ ‬إنسان،‭ ‬ولم‭ ‬تخطر‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬شيطان‭.. ‬من‭ ‬نوع‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬البغال‭ ‬من‭ ‬بومباي،‭ ‬ومن‭ ‬بولاق‭!.‬‏وفي‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬أحزنتني‭ ‬أحوال‭ ‬صديقنا‭ ‬الأديب‭ ‬يوسف‭ ‬نمر‭ ‬ذياب‭.. ‬كان‭ ‬يستعين‭ ‬بالحبوب‭ ‬المنومة‭ ‬على‭ ‬الأرق،‭ ‬ويقف‭ ‬أمام‭ ‬نافذة‭ ‬صغيرة،‭ ‬يفتحها‭ ‬وينظر‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬طويلاً،‭ ‬ويقول‭ ‬كلاماً‭ ‬يشبه‭ ‬الندم‭: ‬يا‭ ‬قمر،‭ ‬يا‭ ‬قمر‭.. ‬أنا‭ ‬قتيل‭ ‬شفتيك‭!.‬‏وكان‭ ‬صديقنا‭ ‬الشاعر‭ ‬البديع‭ ‬صفاء‭ ‬الحيدري‭ ‬يحلف‭ ‬لنا‭ ‬إذا‭ ‬اختلفنا‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬بقوله‭: (‬حلفتُ‭ ‬بالسّمر‭ ‬وبالقمر‭) ‬فنصدّقه‭ ‬في‭ ‬غراميّاته‭ ‬ونحن‭ ‬نضحك‭!.‬‏وقرأت‭ ‬لأديب‭ ‬ايطاليا‭ ‬ألبرتو‭ ‬مورافيا‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬رجل‭ ‬مشكلته‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يحدد‭ ‬النسل،‭ ‬فيقول‭: ‬نحن‭ ‬العشاق‭ ‬الفقراء‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬السهرة،‭ ‬فماذا‭ ‬نفعل؟‭ ‬إننا‭ ‬ننام‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬مبكرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭.. ‬ويجيء‭ ‬الأولاد‭!.‬‏وفي‭ ‬الليالي‭ ‬القمراء‭ ‬أمضى‭ ‬الشاعر‭ ‬حافظ‭ ‬جميل‭ ‬أحلى‭ ‬غرامياته،‭ ‬وغنّى‭ ‬يوسف‭ ‬عمر‭ ‬أجمل‭ ‬مقاماته،‭ ‬وقال‭ ‬الجواهري‭ ‬وقال‭: ‬يا‭ ‬سامرَ‭ ‬الحي‭ ‬بي‭ ‬شوقٌ‭ ‬إلى‭ ‬السَمَرِ‭. ‬ومن‭ ‬دجلة‭ ‬انطلقت‭ ‬مغامرات‭ ‬السندباد،‭ ‬وعلى‭ ‬ضفافها‭ ‬ازدحمت‭ ‬الأحاديث‭ ‬المليحة‭ ‬كالعطر،‭ ‬ومدامع‭ ‬العشاق،‭ ‬وأكواب‭ ‬الصهباء،‭ ‬وعيون‭ ‬الظباء‭!.‬‏ويوماً‭ ‬كانت‭ ‬أمسيات‭ ‬بغداد‭ ‬شديدة‭ ‬الزحام،‭ ‬وليلها‭ ‬كثير‭ ‬السهر‭. ‬فأين‭ ‬من‭ ‬عينيّ‭ ‬هاتيك‭ ‬الليالي‭ ‬يكون‭ ‬البدر‭ ‬تماماً،‭ ‬والنوم‭ ‬حراماً،‭ ‬وأين‭ ‬ذلك‭ ‬البريق؟‭!. ‬‏ثمّ‭ ‬اختنقنا‭ ‬بالعَبَرات،‭ ‬وتلاشينا‭ ‬في‭ ‬الضياء‭.. ‬فاتبع‭ ‬أية‭ ‬نجمة‭ ‬يقظى‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬تدلّك‭ ‬على‭ ‬مجالسنا‭!.‬

مشاركة :