مقالي الماضي "متى القصيدةُ في قلب الشعر؟" "الرياض" 15 / 01 / 2021، أثار تساؤل إن لم تكن قصيدةٌ في قلب الشعر فكيف يكون الشعر؟ أبدأ بتوضيح أنْ ليس شعراً عموديّاً كلُّ كلام موزون، وليس شعرًا حديثًا كل نثر مكتوب عموديّاً لا مرسَلًا كالنص النثري العادي. الشعر ليس شكلًا بل مضموناً. والشعر ليس هيئة تشكيلية بل نبضة شعورية. والشعر ليس مجرد قافية إذا غاب عنها الوزن تصبح سجعًا يوهم تكراره في آخر السطور بشكل الشعر. كل هذا ليس الشعر، وليس من تحديد علمي "ماتيمياكي" للشعر. فهو ليس معادلة حسابية لا تقبل الجدل، ولا تركيبة كيميائية ليس من يجادل في صحتها. الشعر كالعطر.. هل من تحديد للعطر؟ العطر يأرج، نـنـتـشي. العطر جمال غير محسوس يخاطب أحاسيسنا. هكذا الشعر: جمال غير محسوس يلامس أحاسيسنا بالجمال. وما ليس فيه جمال (جمال تعبير، جمال صورة، جمال تركيب، جمال موسيقى..) ليس شعرًا. والشعر كالموسيقى، عبقريتها في ذاتها بتعابير تؤديها آلات إيقاعية، هكذا الشعر: عبقريته في ذاته تؤديه أدوات إيقاعية. وكما على الآلات ألّا تخرج عن الإيقاع، كذا على الأدوات ألّا تخرج عنه، والإيقاع صوت لا يبان بل يظهر صداه، تمامًا كما النوتات الموسيقية (دو، ري، مي ، فا..) لا بدَّ منها ولا موسيقى بدونها إنما لا تظهر تقاسيمها بل على ثباتها تتصاعد الأصداء الإيقاعية في اللحن أو السمفونيا فلا يختل توازنُها، كذا الأوزان الشعرية لا بد منها ولا إيقاع بدونها إنما لا تظهر تفعيلاتها بل على ثباتها تُبنى عمارة القصيدة فلا يختل توازُنُها. لا تظهر؟ طبعًا لا تظهر، يجب ألّا تظهر، التفعيلة كالمرساة في عمق البحر، لا تظهر إنما لا بدَّ منها كي تثبُت السفينة على وجه الغمر، وبفضل متانة رسوخها مخفيةً في القعر لا تشرد السفينة ولا تجرفها الأمواج. وكذا الأوزان لا تظهر تفعيلاتها (مستفعلن، فاعلاتن، مفاعلتن..) إنما لا بدَّ منها كي تتماسك القصيدة فلا تشطح مهوِّمةً بلا هوادة. وهنا أتوقّف صارمًا لأقول إن الوزن، إذا ظهر طافيًا على وجه القصيدة، تسقط القصيدة في التفعيلات ويسقط صاحبها في النظم دون الشعر. هل الوزن ضروري ليكون الشعر شعرًا؟ لا دائمًا.. غروب الشمس الجميل فيه شعر، ضحكة طفلة بريئة فيها شعر، وردة متكئة على سياج فيها شعر، كل كلام (بالتركيب أو بالصورة أو بالمعنى) مغاير بالجمال عن الكلام العادي هو شعر، كل جمال فيه شعر، نثرًا جاء أو منظومًا.. هل هذا يعني أن يكون في النثر شعر؟، هذا ما أُكمله في المقال المقبل.