لماذا ترفض فرنسا الاعتذار للجزائر عن حقبة الاستعمار

  • 1/25/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

رغم أن مسألة اعتراف فرنسا بالويلات التي سببتها طيلة فترة استعمار الجزائر، والتي امتدت لأكثر من قرن من الزمن، كانت مطلبا جزائريا رسميا ملحّا، إلا أن شكل ومضمون وحيثيات هذا الاعتراف لم تبدُ وكأنها تأتي في سياق تنقية العلاقات بين باريس والجزائر فحسب، بل أتت أيضا في سياق محاكمة فرنسا لنفسها وفي سياق مراجعة داخلية فرنسية. لكن يبدو أنها لم تنجح في هذا الاختبار بعد أن أبدت تحفظا حول الاعتذار عن جرائم الحرب التي ارتكبتها ضد الجزائريين. الجزائر - لا يبدو فتح وإغلاق ملف الاستعمار الفرنسي للجزائر مهمة سهلة، فالقضية متشعبة ومحرجة بالنسبة إلى باريس، فهي لا تنحصر في مبادرات دبلوماسية يقودها الرئيس إيمانويل ماكرون لإعادة كتابة التاريخ، رغم اعتراف بلده بجرائم حرب ارتكبتها القوات الفرنسية خلال تلك الحقبة، بل يبدو أن الموقف الأهم هو تقديم اعتذار رسمي، والذي يرى الجزائريون أنه مسألة مصيرية. ويردد المسؤولون الفرنسيون في عدة مناسبات بضرورة طي الجزائر لصفحة الماضي الاستعماري وفتح صفحة جديدة، لكن السلطات الجزائرية طالبت مرارا باعتراف رسمي من باريس بجرائم الاستعمار، وهذه القضية لطالما كانت محل توتر بين البلدين وسجال داخل أوساط المتابعين والباحثين والمؤرخين. وأظهر ماكرون، أول رئيس فرنسي يولد بعد استقلال الجزائر، رغبة كبيرة في تحريك هذه القضية من خلال تكليفه المؤرخ الفرنسي المعروف بنجامين ستورا بإعداد تقرير حول “قضايا الذاكرة المتعلقة بالاستعمار وحرب الجزائر”، التي مازالت حلقة مؤلمة في ذاكرة الملايين من العائلات في كل من الجزائر وفرنسا. لكن المفاجأة كانت أن تقرير ستورا تضمن خطوات رمزية فقط دون إبداء توصية تقتضي بتقديم اعتذار فرنسي عن استعمار الجزائر، والذي استمر بين عامي 1830 و1962، حيث تقول السلطات الجزائرية ومؤرخون إن هذه الفترة شهدت جرائم قتل بحق قرابة 5 ملايين شخص، إلى جانب حملات تهجير ونهب الثروات‎. ارتباك فرنسي مازالت قضية الاستعمار الفرنسي للجزائر رغم مضيّ ستة عقود من نهايتها تلقي بظلالها على علاقات البلدين، ويبدو أن الخروج من صراع الذاكرة هذا أضحى أكثر من أي وقت مضى ضرورة سياسية، كونه يطمس رسالة باريس إلى منطقة المغرب العربي وأيضا أفريقيا ويضرّ بالتماسك الوطني، ولاسيما اندماج أبناء المهاجرين والحركيين. ففي سبتمبر 2018، أقرت الرئاسة الفرنسية بأنها استخدمت نظام التعذيب خلال حرب الاستقلال الجزائرية، وكان ذلك الاعتراف يمثل خطوة فارقة في نزاع لا يزال يكتسي حساسية كبيرة. وقبل ذلك، وتحديدا في شهر فبراير 2017، زار ماكرون الجزائر في خضم حملته للانتخابات الرئاسية، وصرح للتلفزيون الجزائري بأنه “من غير المقبول تمجيد الاستعمار الذي يمثل جزءا من التاريخ الفرنسي وهو جريمة ضد الإنسانية”. وقد لقيت تلك التصريحات انتقادا واسعا من خصومه اليمينيين في فرنسا. وتحدث ماكرون في كتابه “ثورة” الذي نشره قبل ذلك عن وجود “جوانب حضارية” في استعمار الجزائر. وقال “حصل تعذيب، لكن نشأت أيضا دولة وثروة وطبقات وسطى، كانت هناك جوانب حضارية وجوانب همجية”. وكان الرئيس السابق فرنسوا هولاند قد اعترف أمام البرلمان سنة 2012 بالمعاناة التي عاشها الشعب الجزائري على يد الاستعمار الفرنسي، وقام كاتب الدولة المكلف بالمحاربين القدامى والذاكرة جون مارك تودتشيني بتجسيد ذلك الاعتراف حينما تنقل في أبريل 2015 إلى مدينة سطيف للترحم على روح سعّال بوزيد، أول ضحية لمجازر الثامن من مايو 1945. وقبل سنوات عرضت السلطات الفرنسية الرؤوس المقطوعة لعدد من مقاتلي المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي في ساحة أحد الأسواق أولا ثم نقلتها إلى قبو أحد المتاحف الخاصة في العاصمة باريس، ولكنّ ماكرون فاجأ المراقبين في يوليو الماضي حينما قرر إعادة هذه الرؤوس إلى وطنها الأم. وفسّر مراقبون نظرة ماكرون إلى هذه الخطوة على أنها جزء من محاولته تقديم صورة حديثة للدولة الفرنسية، في الوقت الذي تصاعدت فيه حدة الانقسامات العرقية في بلاده على خلفية ما يحدث في الولايات المتحدة، غير أن المتابعين رأوا في تردده في إعطاء موقف واضح عقب الإعلان عما جاء في تقرير ستورا، أن الأمر ليس بتلك السهولة التي كان يتخيلها وأن اندفاعه لم يكن مدروسا وقد يفتح الباب على مصراعيه أمام دول أفريقية أخرى للمطالبة بنفس ما تطالب به الجزائر. ولكن اللافت أنه بعد كل تلك السنوات من المحاولات لرسم معالم جديدة بين باريس والجزائر، لم تتمكن فرنسا في عهد ماكرون من إحداث اختراق واضح في هذه القضية، مما جعل عبدالعزيز رحابي، وزير الإعلام الجزائري الأسبق، يعتبر أن هذه الخطوة محاولة من باريس للقفز على مطلب رئيس للجزائريين، وهو تقديم اعتذار رسمي عن جرائم الاستعمار، بدل الخوض في مسائل هامشية. وتجاهل المؤرخ ستورا، الذي وصفته الصحافة الفرنسية بأنه كان حذرا في انتقاء التوصيات، قضية الاعتذار التي مازالت تسمّم النقاش، من أجل التركيز على الاعتراف بأحداث معينة رغم أنه اقترح إعادة بعض الأرشيفات إلى الجزائر، لتسليط الضوء على اغتيالات الأوروبيين في وهران في يوليو 1962 والتعرف على أولئك الذين اختفوا من الجانبين خلال الحرب، والعمل مع الجزائريين بشأن موضوع التلوث الذي أعقب التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء حتى 1966. ومنذ انتخاب عبدالمجيد تبون رئيسا للجزائر في ديسمبر الماضي، عرفت العلاقات الثنائية فتورا ملحوظا، حيث تعامل الإليزيه في البداية مع انتخابه ببرودة، ووصفه وزير الخارجية جان – إيف لودريان بـ”الأمر الواقع الذي يتوجب التعامل معه”، وهو ما قابلته السلطة الجزائرية بتكثيف الانفتاح على قوى أخرى أشد منافسة للفرنسيين، كروسيا والصين. ويرى مراقبون سياسيون جزائريون أن ثمة أسباب عديدة تقف وراء عدم اعتذار فرنسا، وعلى رأسها التعويضات التي قد تطالب بها، كما يرتبط الأمر أيضا بالدول الأفريقية التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي. وقالت حدة حزام الكاتبة والسياسية الجزائرية إنه كان متوقعا عدم طرح المطلب في الاقتراحات التي قدمها المؤرخ الفرنسي من أصول يهودية جزائرية ستورا إلى ماكرون، وأن هذا الإغفال أفقد العملية برمتها قيمتها. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فقد انتقد كمال بلعربي، البرلماني الجزائري، الذي كان وراء طرح مشروع قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي في يناير العام الماضي تقرير ستورا ورفض فرنسا الاعتذار عن جرائمها. واعتبر أن التقرير “أطلق رصاصة الرحمة على فكرة حسن النوايا والصداقة الحقيقية”، داعيا الرئيس تبون للرد على هذه الخطوة الفرنسية. تجاوز السجال السياسي الانتقادات التي تعرض لها تقرير ستورا حول مصالحة الذاكرة بين فرنسا والجزائر، دفعت المؤرخ الجزائري فؤاد سوفي إلى اعتبار أن التقرير يمكن أن يفتح الباب لنقاش حول المصالحة “بعيدا عن الجدل السياسي”، رافضا “استغلال التاريخ” في السرد الوطني الجزائري. لكن سوفي المتخصص في تاريخ الجزائر المعاصر والخبير في الأرشيف اعترف بمدى تعقيد المهمة التي أوكلها ماكرون إلى المؤرخ الفرنسي، في مواجهة التيارات “التي تحن إلى الاستعمار”، وتلك “المعادية بشكل أساسي لفرنسا في الجزائر”. السلطات الجزائرية طالبت باعتراف رسمي من باريس بجرائم الاستعمار، وهذه القضية لطالما كانت محل توتر بين البلدين وتبرز صعوبة العمل على الذاكرة من الجانب الجزائري من خلال نقاط ضعف مثل النظرة النقدية والانقسامات الداخلية واختلال التوازن في الإنتاج التاريخي، مع عدد أقل بكثير من الكتابات مقارنة بما نشر في فرنسا، بيد أن البعض يرون أن الأجيال الجديدة التي لم تعش الفترة الاستعمارية ستساعد على التهدئة. وبينما أوصى المؤرخ الفرنسي بتسهيل تنقل الحركيين والعائلات المتحدرة منهم بين فرنسا والجزائر، أكد سوفي أن أطفال الحركيين، الذين يعتبرون أنهم خونة لبلدهم الجزائر، لم يُمنعوا أبدا من التراب الجزائري، واعتبر الباحث الجزائري أن الإجراءات الرمزية التي أرادها ماكرون مثل إعادة 24 جمجمة لمقاتلي المقاومة هي إشارات بسيطة وبالتالي قابلة للتنفيذ. ومع ذلك، وكما قال سوفي، يبقى الخلاف الرئيسي بين الجزائر وباريس، حول الأرشيف، لاسيما في ما يتعلق بمكان حفظ الوثائق الأصلية. وبحسب هذا المسؤول السابق عن الأرشيف، فإن “الدولة من دون أرشيفها ليست دولة. في العلاقات بين دولة وأخرى، يعتبر الأرشيف نقطة جوهرية”. وتطالب الجزائر باستعادة كل الأرشيف المتعلق بالتاريخ الوطني، بينما تتمسك باريس بمقترح تسهيل وصول الباحثين من كلا البلدين لهذا الأرشيف دون تسليمه. وإذا كان تقرير ستورا اقترح أن تستعيد الجزائر بعض الأرشيف (النسخ الأصلية)، فإنه لا يذكر أي وثائق يقصد، ولا يشير إلى تلك الخاصة بوضع الجزائر في ظل الحكم العثماني، ولا إلى تلك التابعة لجيش التحرير الوطني أثناء الحرب.

مشاركة :