لمناسبة صدور كتابَها “جرح المعنى و أفق المعنى” عن دار “الساقي”، تفتح الأديبة الكبيرة الناقدة الدكتورة خالدة سعيد جعبة أفكارها، وتتحدث الينا بلغة صافية، تعكس صورة الأصل التي تتجذر في كيان الوعي والأدب والشعر الذي ينمو ويتنامى في أعماق ثقافتها وكيانها الكبير. كاتبة وأديبة عربية من طراز خاص جداً، حملت قلمها وكتابها وعلمت الأجيال، وتخرّج من (مدرستها) كبار الكتاب والأدباء. وتتحدث في هذا الحوار، كما هي عادتها، حديث الوعي والثقافة والأدب، وكأنها تتلو علينا بيانها الثقافي الإبداعي الأمتع، فماذا تقول؟: إسماعيل فقيه: لماذا ” جرحُ المعنى “، ولماذا ” أفقُ المعنى “؟ أيُّهما أنتِ في هذا الأفق المجروح؟ خالدة سعيد : ” الجرح ” كرمز، له آفاق دلالية شاسعة. هو الكشف المدهش – المؤلم. إسمع هذا القول لفيكتور هوغو الذي استشهدتُ به في كتاب ” فيض المعنى ” وخلاصته ” إجرح السرّ لترى قلب الجوهريّ “. أمّا دلالة العنوان ” أفق المعنى ” فهي واضحة، وتنطلق من كون الدّلالة افقاً يتّسع بحسب قدرة القارىء على النظر البعيد والارتحال في أفق الدلالة واكتناه خفايا الكلام. أمّا ” جرح المعنى ” فهو إشارة إلى القراءة – المعاناة أو القراءة الارتماء في أمواج النصّ. النص المقصود هنا هو ” مفرد بصيغ الجمع ” لأدونيس. قرأته في فترات متقطعة، لكن مستمرة، وتأملت فيه سنوات طويلة، (حوالى ثماني سنوات ) كأنها قراءة طقسيّة. خالدة اسبر وزوجها الشاعر ادونيس وهي في الواقع القراءة التي أتمنى أن أمارسها أو أعيشها معكل نصّ. إنّما هذا كان سيعني الاقتصار على دراسة نصوص قليلة، ولا طاقة عندي على مقاومة نصوص عديدة تدعوني ولا بد من زيارة عوالمها والاستضاءة بها. علماً بأن هذه القراءة الطقسيّة، أو الإقامة في جوار النصّ هي ما أتمنّاه. لذا حاولتُ شيئاً من هذا مع نص” مفرد بصيغة الجمع“، فكان كتاب ” جرح المعنى ” الذي ظلّ بين يديّ لا أبتعد عنه طويلاً. كما حاولت بعض المحاولة مع نصوص لمحمود درويش وأنسي الحاج ونصوص لبدر شاكر السّيّاب،(علماً بأنني لم أنشر نتائجها جميعاً)، واكتفيت، حتى الآن، بما نشرته في ” أفق المعنى “. عنوان ” أفق المعنى ” يريد القول إنّ المعنى لامتناهٍ، قد يمكن تتبّع مساره أو بعض مساراته، لكن لا يمكن استنفاده أو الإحاطة بكلّيته، لا سيما مع القارىء الواحد. فهو يولد ويتوالد مع كل قراءة. فكيف إذا تنوّع القرّاء وتغيّرت العهود. لأنّ اللغة الشعريّة، خاصّةً، بنية حيّة، كائن حيّ ووظيفة ما فوق عملية وما فوق دلالية. لم تتوقف عن تجاوز نفسها، أي دلالاتها وأغراضها وخصائصها، بقوة توالدها عبر توغلها في المجاز، وبقوّة النّموّ الدلالي للغة ولعبقريّة التصوير وآفاقها المفتوحة. وكلّ نصّ جديد أو تعبير مجازي مبتدع أو تأويل جديد يواصل توسيع أفقها. هذا إضافة إلى آليات امتصاص الدلالة. فالصفة والكناية والمجاز وكثير من الاستعارات تتحول هي ذاتها إلى دوالّ. ولا يتوقّف التّأويل. اللغة تنمو لا بقوة نموّ المعرفة والمصطلحات والمفهومات وحسب، بل أيضاً عبر عديد الروافد، وبينها المجاز، أي ما يولده النشاط الفكري الفنّي للإنسان. أمّا ما تسمّيه في سؤالك ” الأفق المجروح ” فهو موقع قارىء لا يعرف خطوط النهايات ولا تهدأ تساؤلاته، ولا تتوقف محاولاته لإعادة الاكتشاف وإعادة التأويل. وبالنسبة إليّ، العالَم هو أفق المعنى، والشاعر قارئه. والكتابة الإبداعية بالنسبة إليّ هي مواصلة بناء المعنى وتجديد تفسير العالم. – لماذا هذا البوح الكامل والكبير في كتابك؟ – وما معنى الكتابة حول الإبداع أو حول نصّ إبداعيّ بدون ذلك؟ وكيف يمكن تفادي البوح مذ يحضر القلم في اليد؟ لكن البوح بماذا؟ البوح بالعوالم التي بعثها النصّ فينا. البوح بالدّهشة والسّحر وكلّ ما تفتّح فينا لحظة هذا اللقاء مع النصّ الإبداعيّ. فإن لم يكن الأمر كذلك، ما الذي يستحقّ أن يُكتَب؟ والكتابة حالات تفيض عن التعريف. علماً بأنّ البوح لا يكتمل أبداً ولا يشفي الحاجة. النّقد، كما أفهمه وأمارسه ( الحقيقة لا أحبّ كلمة ” نقد ” وأفضّل كلمة “قراءة”) هو رحلة في النّصّ واكتشاف لعوالمه. إنه أقرب أن يكون تدويناً لتجربة الدهشة أو التجاوب والكشف عبر الرّحيل في عالم النصّ. مؤكَّد أنّ الثقافة والمعرفة الواسعة بالأصول، إلى جانب الاستعداد الخاص أو الهيام، شروط مطلوبة للدخول في مغامرة القراءة. – اللغة هي لغزٌ موازٍ للغز الحياة، وهي الحاضن المُخصِب لمعانيه. اللغة هي صوت الحياة وترجمانها. حتّى مَن حُرِم اللغة لأسباب جسديّة سوف يجهد لابتداع لغته. يوم كنت في السابعة عشرة في دمشق، ذهب صفُّنا للاستماع إلى محاضِرة أميركية هي هلن كيلر (1880 – 1968 ) العمياء الصمّاء البكماء بالولادة. ولكننا سمعنا تلك المرأة المدهشة تتكلم بضع عبارات وتكمل المحاضرة باللمس، أي بلغة الأصابع على وجه مدرّبتها أو مترجمتها التي أخرجتها من بئر اللاتواصل؛ حتى أنها درَسَت وأمْلَت أطروحة على مدربتها وحصلت على شهادة الدكتوراه. فالتعبير فعل حياة وحضور. لكن بالطبع، التعبير درجات وآفاق. استقبال التعبير العالي أو الفنّي واستجلاء مراميه والرحيل في آفاقه هو بدوره فعل حياة رائع، بل هو أيضاً فعل إبداع. وحياتي اليوم تتحرك في أفق القراءة أي في أفق الدهشة. – في هذه الحالة ما هي الكتابة إذاً؟ هل هي فعل تطبيق الشعور والأحاسيس، أو أنّها ابتكارٌ لمسافة حياة ممكنة ؟ – لست مقتنعة بهذا التصنيف، وأحسّ أنني سأركّب جواباً مصطنعاً للردّ على هذا المنطق. أفضّل القول إنّها (أي الكتابة) أخذ الأحاسيس والرّؤى في اتّجاه حياة عليا ممكنة أو مرتجاة، حياة تتحرّر من حكم الزّمان والمكان، وتتفاعل مع القريب كما تتفاعل مع البعيد المختلف، وتقيم حواراً صامتاً بين مصدرها ومرساها. لا سيّما إذا كانت فنّيّة إبداعيّة أو عقَديّة رائية. – ثمّة مَن يقول بأنّ اللغة هي مذكّر وليس للمؤنّث فيها أكثر من الوصف؟ – تُقال أشياء كثيرة حول هذه الحقيقة الرّائعة في الحياة: المؤنّث والمذكّر. (تخيّلوا بشرية مكوّنة من جنس واحد). ما أغرب جرأة من يطلقون هذه الأحكام ، بل ما أفظع جهلهم. لكن في الوقت نفسه تُسمّى لغة الإنسان الأصلية اللصيقة به اللغة الأمّ. واللغة يرضعها الوليد من الأم كما يرضع أسباب الحياة. صحيح أنّ اللغة، في الشروط الاجتماعيّة الموروثة أو الراهنة، تتطور وتغلب عليها مضامين إيديولوجيا الأب، لكن دون غياب المنابع الأولى الحميمة أو الأمومية. حتى هذا القول فيه شيء من الاصطناع، ما دامت البشرية لا تقتصر على جنس واحد أو متكلم من جنس واحد. اللغة بلا جنس، أو أنّ جنسها الإنسان بجنسيه ومجمل تجاربه. – ماذا يعني أن تكتب المرأة عن ذكوريّة في الحياة، وماذا يعني أن يكتب الرجل عن امرأة تحدد أصل العاطفة؟ – هناك أكثر من مستوى أو منطلق للكتابة عن الذكورة والذكوريّة أو عن الأنوثة والمؤنّث. الكتابة حولهما شعريّاً وفلسفيّاً شيء، والكتابة عنهما اجتماعيّاً شيء مختلف. في الكتابة على المستوى الاجتماعيّ يحضر نقد التّاريخ وتحليل الواقع الاجتماعي الذي أعتبره مشوَّهاً بسبب علاقات التملّك والهيمنة ومسارات الصراع بين الجماعات. وهناك الكتابة على المستوى الإنساني الشعريّ المثالي. تاريخيّاً هناك فيض من كتابة الرجل عن النساء شعريّاً عاطفيّاً ونثرياً اجتماعيّاً. والمدهش هو التضادّ بين صورَة المرأة والنساء في الشعر والفنّ إجمالاً وصورتها في النثر والقانون. والملاحَظ أنّ كتابة المرأة عن الرجل أكثر توازناً. فليس هناك تضادّ فادح بين صورتَي الرجل في الكتابة النسائية شعراً أو نثراً. لكنّ صورة الرجل في الكتابة النسائية لم تبلغ كمالها وتفتّحها بسبب الخَفَر والأعراف أو القيود الاجتماعيّة. يجب أن نلتمس هذه الصورة في أشعار بعض النساء. – إلى أين أوصلك سؤال الكتابة، هل وصلت السيدة خالدة إلى جواب نهائيّ؟ – سؤال الكتابة، حين لا تكون الكتابة عملية أو وظيفية غائيّة، هو نفسه سؤال الشعر، على الرغم من التمايز بين الشعر والنثر كما يتمثّل في النّقد. وهو سؤالٌ لا يشفى. لأنّ للموهبة الشعرية خصوصية؛ لكن ينبغي أن نعرف أنّ الدروب إلى الشعر لا تُحَدّ. حين أكتب حول الشعر يتوجّب عليّ أن أدخل في مائه عارية من كل سلاح غير ضوء المعرفة وظمأ المعرفة، والمعرفة – الحساسية أو الحساسية العارفة؛ وألتمس منابعه وأستضيء بأسراره، راجيةً أن أخرج بإشارات لا تلغي أو تكشف سحره، وإن كانت تسبح في بحره أو ترتاده. الكتابة إجمالاً هي إعادة نظم للوجود، وحتى إعادة تصوّر للحياة والأشياء. هي التساؤل المتواصل والبحث المتواصل دون غياب الحلم. وهي من ثمّ لقاء بين أضواء الداخل وأضواء العالم أو التاريخ. ومع أن أسئلتي لم تتوقّف حتى الآن، فإنّني لا أبحث عن أجوبة نهائية تضع حدّاً لتساؤلاتي. – في قاموس المعنى، هل للحب امتياز في تحديد مقياس الوعي؟ – لا أعرف كيف يكون ” تحديد مقياس الوعي “. لأنّ الوعي حركة ومشروع مفتوح. إنه مسار لا وصول. وكلّ تجربة، كل معرفة أو حالة تعيد تحديده أو توصيفه. لكنّ للحبّ امتيازات كثيرة في الإضاءة وتعميق الرّؤية وإغناء المعنى وإرساء المعايير، سواء أكان ذلك في مجال الشعر والإبداع أو في المجالات الإنسانيّة. كيف تتخيّل الإنسانية، بل الكون بدون الحبّ بمختلف أبعاده؟ فعن أيّ أفق من آفاق الحبّ نتكلّم؟ وما تعريف الحب ؟ – مَن هي خالدة سعيد، كيف تعرّف نفسها اليوم، بالأمس، وغداً؟ هل تغيّر التعريف، هل زاد التعريف؟ هل نقص؟ هل انقلب؟ مَن أنتِ؟ لماذا كلّ هذا الكلام في صمتك؟ – إنّه السؤال الأصعب. مَن هي؟ ليست لديّ إجابة واضحة. لِنَقُلْ هي إنسانٌ يحبّ الأرض، يحبّ الشعر ويستضيء به. إنسان يحبّ الحبّ بالمعنى الإنسانيّ الشّامل، ولا سيما ما تمثّل في الطفولة والصداقة والعدل والشعر، الحبّ بكلّ المعاني وأطيافها. هي إنسان تفتنه لحظات البوح التي لا تُصَنّف، لحظات اكتشاف كلّ فرد لمعنى وجوده الغامض المدهش في هذه الحياة، وحسرة عبوره الخاطف، وشوقه إلى إنتاج أثر يبقى للآتي المجهول. وعلى المستوى المباشر هي إنسان يحبّ هذه اللغة العربيّة، المجهولة غالباً، اللغة التي نهلت من منابع موغلة في القَدم وحاملة لأفكار ومشاعر وتطلّعات ورؤى توالَت عبر حضارات متعدّدة عريقة، وتنوّرت بنصوص وعقائد عمّقَت مدارك الإنسان. وفي هذا الأفق أنصح بقراءة معجم العلايلي حتى لو كان غير مكتمل، لأنه أكثر من معجم وأكثر من تاريخ. إنه استكشاف وحفر في عمق تاريخ اللغة العربية وإشعاعها وروافدها ومسارها عبر العهود. وعلى المستوى المباشر، هي إنسان يحب أن يسافر في أسرار الطفولة وأسرار الأعمال الإبداعية، ولا سيما الشعرية منها. باختصار كانت إنساناً يبحث، وهي اليوم إنسان يلتمس خطوط اللقاء بين الحبّ والبحث فيما يستعدّ للوداع.
مشاركة :