قال مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، إن التطرّف ظاهرة معقّدة، تتداخل فيها عوامل عديدة، تساعد على انتشارها، ومن بين تلك العوامل: شعور البعض بمدى التباين والتباعد بين ما نتعلمه من قِيم وخصالٍ حميدة، وما نطبقه على أرض الواقع. وأضاف في دراسة جديدة له، أنه لا يجوز وصف المجتمعات بالجاهلية، وعلى هذا اتفقت كلمة العلماء، فلا جاهلية بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن وقع في ذلك استحق وصف النبي له حيث قال: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"، وهذا الحديث جاء فيه لفظ "أَهْلَكُهُمْ" بروايتين، أحدهما رفع الكاف، وتعني: أنّ من قال ذلك فهو أشدهم هلاكًا. والرواية الأخرى جاءت بفتح الكاف؛ وتعني: أنّه ادعى هلاكهم، لا أنهم هلكوا في الحقيقة. ونسأل هؤلاء المتمردين على مجتمعاتهم: ألم تقع مخالفات شرعية في مجتمع كان يعيش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وأجاب بأنه وقعت في زمن النبي -صـلى الله عليه وسلم- ذنوب مِمَّن هم أفضل منَّا دينًا وإيمانًا وخُلُقًا.تخبرنا بذلك النصوص الواردة في سنة النبي -صـلى الله عليه وسلم- أنّه قد وقعت بعض الذنوب؛ بل بعض الكبائر، مع اتفاق الجميع على خيرية هذا المجتمع وأفضلية أهله، وما خبر ماعز بن مالك الأَسْلمي "رضي الله عنه" والغامدية وغيرهما عنَّا ببعيد، لكن الفرق الذي بيننا وبين جيل الصحابة أنّهم كانوا يُحسنون الظن بإخوانهم، ولم يكونوا يومًا عونًا للشيطان عليهم، بل كانوا يقدمون النُّصح في لطفٍ ولين، ولا ينعت أحدُهم الآخر بالكفر أو الفسق، لمجرد وقوعه في معصية، ولو كانت كبيرة من الكبائر.أمّا أصحاب الفكر المتطرف فإنهم يفترضون سوء الظن بالآخرين، ويجعلونه أصلًا؛ فالناس عندهم على شرٍّ حتى يثبت العكس، فنظرتهم للمجتمع نظرة تشاؤمية، ولو حققنا في مصدر ذلك كله لوجدناه الثقة الزائدة بالنفس، وصدق الإمام الغزالي في وصفه لهذه المعضلة حيث قال في كتابه الإحياء: "والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة فهمك وذكائك، وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته". ومن ثم فإنَّ زيادة ثقة هؤلاء بأنفسهم أدَّى إلى احتقار تديُّنِ الغير، وظنّوا أنّهم لا مثيل لهم، ولا شبيه، وأنّهم على الحق الذي لا مراء فيه، وما سواهم على الباطل، ثم يزداد الأمر سوءًا عندما ينتقل الحال بهم من مجرد نظرة دونية ينظرون بها إلى غيرهم، إلى أن يأخذ الأمر شكلًا من أشكال التطرف، بإرهاب الناس، وسلب أرواحهم وأموالهم، وهم بهذا قد وقعوا فيما اتهموا به الناس، من عدم تطبيق ما تعلموه من قيم دينية واجتماعية.كما ذكر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في دراسته "العائدون من داعش" إقدام التنظيمات المتطرفة على قتل كلِّ من يرغب في الانشقاق والعودة إلى وطنه بتهمة الخيانة، ومَثّل على ذلك بما حدث مع الملاكم التايلاندي الألماني "فاديلت غاشي" الذي انضم إلى تنظيم داعش الإرهابي في أكتوبر 2014، وفي يونيو 2015، قرَّر التنظيم الإرهابي إعدامه، بعد علمهم برغبته في الهروب، وإعلانه عن ذلك لأحد السياسيين الألمان عبر فيسبوك. وقد يجد العائدون من هذه التنظيمات شعورًا بالنقمة، بعدما أحسوا بأنّهم تعرضوا للغش والخداع؛ لأنّهم وجدوا حكمًا يقوم على القمع، ويأمرهم بعدم التفكير، وأن ما استقطبوهم به كان مجرد وَهْمٍ وسراب، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.لذلك كله يجب على مؤسسات المجتمع المتنوعة، أن تتكاتف لمواجهة التطرف، وكذلك الجهات التي تؤثر في حياة الناس؛ لا سيَّما الجهات المعنية بالدعوة والإعلام؛ وهذا يكون بدعوة الناس لإحياء ما أمرنا به الإسلام من حسن الخلق مع الناس أجمعين، وأيضًا نشر الأعمال الدرامية الهادفة، التي تدعم القِيَم التي دعانا إليها الإسلام، مثل التسامح والعدل وغيرها؛ فالدراما - كما قرّر علماء الاجتماع- أحد أهم الأسلحة في تربية الشباب، بل وتقويم أيِّ سلوك معوجّ داخل المجتمعات، خاصة الأعمال المرئية؛ فإن لها قدرةً على التأثير والجذب، ولا أدلَّ على ذلك من أن التنظيمات الإرهابية نفسها، أدركت حقيقة تلك الأداة وفاعليتها في جذب الشباب، فأصبحت تستغلها، وتستفيد منها.وناشد المرصد الشباب، على الشباب ألا يسمعوا لهؤلاء الذين يُغْرونهم بـ"المدينة الفاضلة"، وأن يعلموا أن حكمة الله -تعالى- اقتضت أن يوجد في المجتمع الواحد الطيب والخبيث، والخير والشر، فنحن لا نتعامل مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مَرَدة؛ بل نتعامل مع بشر، يحسنون ويسيئون، وأن أفضل تعامل مع المخالفين لنا يكون من خلال المنهج النبوي، الذي رسمه القرآن الكريم في قول الله تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين}[النحل: 125].
مشاركة :