قضت أونج سان سو كي 15 عاما في إقامة جبرية خلال كفاحها من أجل الديمقراطية في ميانمار قبل أن تصبح زعيمة للبلاد واليوم عادت إلى المعتقل من جديد مع قيادات أخرى من حزبها السياسي في انقلاب عسكري. تحظى سو كي بشعبية واسعة في ميانمار ويطلق عليها الشعب وصف “السيدة” إذ أنها حققت أحلام الملايين عندما نال حزبها فوزا ساحقا في الانتخابات عام 2015 وأسس أول حكومة مدنية منذ نصف قرن في تلك الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا. غير أن سو كي الحائزة على جائزة نوبل للسلام روعت العالم بعد ذلك بعامين عندما أنكرت مدى الحملة الشاملة التي شنها الجيش على أقلية المسلمين الروهينجا والتي دفعت بمئات الآلاف إلى الفرار من البلاد. ولا تزال سو كي شخصية محبوبة في بلادها غير أنها أخفقت في توحيد الجماعات العرقية الكثيرة أو وضع نهاية لحروب أهلية مستمرة منذ عقود. وشهدت البلاد تحت قيادتها تشديد القيود على الصحافة والمجتمع المدني كما اختلفت سو كي مع كثيرين من حلفائها السابقين. سو كي هي ابنة بطل الاستقلال أونج سان الذي اغتيل عام 1947 وهي ابنة عامين. وقد قضت معظم سنوات الطفولة والشباب في الخارج. ودرست في جامعة أكسفورد والتقت بزوجها الأكاديمي البريطاني مايكل أريس وأنجبت ابنين. وقبل زواجهما طلبت سو كي من أريس أن يعدها ألا يحاول منعها إذا احتاجت للعودة إلى بلادها. وفي 1988 جاءتها المكالمة الهاتفية التي غيرت حياتهما. فقد كانت والدتها تحتضر. وفي العاصمة يانجون، التي كان اسمها رانجون آنذاك، ذابت في ثورة قادها الطلبة على المجلس العسكري الذي استولى على السلطة عقب وفاة والدها ودفع بالبلاد إلى عزلة مدمرة. وأصبحت سو كي، التي تشبه ملامحها ملامح والدها أونج سان معبود الجماهير بدرجة مذهلة، زعيمة لحركة جديدة أصبح حلم والدها “بناء بورما حرة” من شعاراتها. وسحق الجيش الثورة وكان القتل أو السجن مصير قادتها وأصبحت سو كي سجينة في بيت أسرتها المطل على بحيرة. وكان مجرد النطق باسمها علي الملأ يجلب على أنصارها حكما بالسجن ولذا أطلقوا عليها اسم “السيدة”. لعبت سو كي التي اشتهرت بنبرة حديثها الهادئة دورا حاسما في تسليط اهتمام العالم على المجلس العسكري الحاكم في ميانمار وسجله في حقوق الإنسان وفازت بجائزة نوبل للسلام عام 1991. وتوفي أريس عام 1997 لكنها لم تحضر جنازته خشية ألا يُسمح لها بالعودة لبلادها. وعلى مدى سنوات شن الجيش حملة لا هوادة فيها لتشويه صورة سو كي ووصفها بأنها “مقبض بلطة الغرب”. وخلال فترة قصيرة تحررت فيها من الإقامة الجبرية خلال 1998 حاولت السفر خارج يانجون لزيارة أنصارها ومنعها الجيش. وجلست داخل سيارتها الفان على مدى عدة أيام وليال رغم ما نالها من شعور بالجفاف في ظل الحر القائظ وقيل إنها سعت لجمع ماء المطر في مظلة مفتوحة. ونجت سو كي من محاولة اغتيال عام 2003 عندما اعتدت مجموعة من مؤيدي الجيش يلوحون بالأسياخ والعصي على قافلة كانت مسافرة فيها. وتعرض عدد من أنصارها للقتل أو أصيبوا بإصابات بالغة. وفرض عليها الجيش بعد ذلك الإقامة الجبرية من جديد وأصبحت تلقي من خلف الأبواب خطبا أسبوعية على أنصارها وهي تقف على طاولة متداعية تتحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية تحت أعين رجال الشرطة السرية. وكانت سو كي البوذية تستعين في حديثها عن كفاحها في بعض الأحيان بعبارات روحية. من التبجيل إلى الذم في 2010 بدأ الجيش سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية وتم الإفراج عن سو كي في حضور آلاف من أنصارها بين دموع البعض وتهليل البعض الآخر. وفي الغرب قوبلت سو كي بالحفاوة والتكريم. وأصبح باراك أوباما أول رئيس أمريكي يزور ميانمار عام 2012 ووصفها بأنها “مصدر إلهام للناس في مختلف أنحاء العالم بمن فيهم أنا نفسي”. وخففت واشنطن العقوبات الاقتصادية الأمريكية على ميانمار لكن سو كي ظلت تتوخى الحذر فيما يتعلق بمدى الإصلاحات. وبالفوز الذي حققته سو كي في انتخابات 2015 أصبحت رئيسة مجلس الدولة وتعهدت بإنهاء الحرب الأهلية ودعم الاستثمار الأجنبي وتقليص دور الجيش في الحياة السياسية. كما وعدت الحلفاء الغربيين بأنها ستعمل على حل محنة الروهينجا الذين تحملوا العبء الأكبر من الاشتباكات العنيفة مع البوذيين وتم اعتقال مئات الآلاف منهم في معسكرات احتجاز. وفي أغسطس آب 2017 هاجم مسلحون من الروهينجا قوات الأمن ورد الجيش بحرق مئات القرى وارتكب جرائم قتل واغتصاب جماعية. ووصفت الأمم المتحدة ما حدث بأنه تم “بنية الإبادة الجماعية”. وقالت سو كي إن الجيش يعمل على فرض “سيادة القانون” وبدا أنها مرتبكة وجاهلة بحجم حركة النزوح التي شهدتها البلاد. ورغم أنها لم تكن تملك السلطة لتوجيه عمليات الجيش فقد أصدرت الحكومة أوامر بأن تتحول الأراضي المحروقة إلى أرض مملوكة للحكومة وأشرفت على هدم القرى المدمرة. ونددت بها على الملأ مؤسسات عالمية ومؤيدون سابقون من بينهم الدالاي لاما وأُلغيت العديد من الأوسمة الكثيرة التي نالتها. وفي 2019 طارت سو كي إلى لاهاي للرد على اتهامات بارتكاب إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية. واعترفت باحتمال ارتكاب جرائم حرب لكنها صورت الحملة التي شنها الجيش على أنها عملية عسكرية مشروعة تستهدف إرهابيين.
مشاركة :