وسائط عديدة يمكن أن تحكي تاريخ الوطن، فتقول لنا ما الذي فعله الاستعمار بنا، وإلى أي مدى أثر هذا الاستعمار في ثقافة الوطن. ويمكن للوسائط أن تعكس عبر ما هو مكتوب وما هو مرئي، وعبر بعض المباني التي تقف كشاهدات قبور على فترة كانت آثمة في تاريخ الحرية. لكن ثمة وسط هذا ما هو مختلف دوماً، وما هو استثناء مثل مقهى «كافيه دي فرانس» الواقع في ساحة جامع الفنا بمدينة مراكش المغربية. في مزج مميز بين ما هو أرشيفي وبين لقطات مصورة آنية، ولقطات تمثيلية روعي أن تأتي بالأبيض والأسود وكأنها قديمة، تبدأ أحداث فيلم مقهى فرنسا، الممتد زمنه لنحو أربع عشرة دقيقة فيما يُعرف بفيلم وثائقي قصير. صُناع الفيلم تكاتفوا، لإنجاز عمل شديد البساطة والأُلفة والتميز وأيضاً التكثيف، بحيث أن المشاهد سيدهش أمام كمّ المعرفة التي سيتمكن من تحصيلها بفضل الفيلم عن تاريخ الاستعمار الفرنسي في المغرب وآثاره، تلك المعرفة التي تبدو فائضة كثيراً عن زمن عرض الفيلم. يسير الفيلم في مسارين دراميين أحدهما يتمحور من حول المغني عبدالجليل كشطي، في لقطات تمثيلية تستعيد طفولته قبل أن يأخذه السياق في رحلته اليومية إلى مقهى فرنسا ليحكي عن يومياته مع المقهى وتاريخ المقهى. أما الخط الدرامي الثاني فهو تلك المقابلات التلفزيونية مع باقة من المثقفين في المغرب. هنا تبدو المهارات البحثية للباحث مولاي الطيب المدير متجلية بوضوح في المادة المتوافرة عن المقهى منذ أنشأه الفرنسيون في مراكش ليكون مركزاً لتجمعهم، وحتى بات المقهى وزيارته علامة على زيارة مراكش، وزيارة المغرب. أصبح من لم يزر «كافيه دي فرانس» يبدو وكأنه لم يزر مراكش. وبهذا انطلاقاً من كمّ لا بأس به من المعلومات الشيقة، استطاعت أسماء المدير صياغة سيناريو متماسك ومكثف وممتع تنحاز فيه إلى فترة زمنية دون أخرى، ليصبح الفيلم بمثابة ومضات تضيء على تاريخ استعمار فرنسا للمغرب وتلمع متجاورة كأنها كاشفة للتاريخ دون أن يشعر المشاهد بالفجوات أو أن ثمة شيئاً منسيّاً. الموسيقى جاءت متوافقة مع بناء الفيلم، حيث استعان أنس الدراوي بموسيقى محلية هي مزيج من أنغام الأمازيغ وألحان الراي، وجاء صوت معاذ معاذ متمماً للحالة، ما يمكّن المشاهد من أن ينتقل بوعيه وروحه إلى مراكش فيما هو يشاهد الفيلم. وواضح انطلاقاً من هذا كله أن زمن الفيلم القصير (14 دقيقة) يطرح تساؤلاً حول اختيار الزمن مع أن المادة الخاصة بالفيلم يمكن أن تُنتج فيلماً بزمن أطول بكثير، ويرتبط الأمر هنا بكون «مقهى فرنسا» واحداً من الأفلام التي حُققت ضمن إطار سلسلة من الأفلام حملت عنوان «مقاه عتيقة». لم يتم إسناد هذه السلسلة إلى منتج واحد وهو ما صنع تميزاً وثراءً في الأعمال المنتجة والتي كانت كلها تتناول المقاهي القديمة في المدن المختلفة، إلا أن صُناع فيلم «مقهى فرنسا» اعتنوا بتاريخ المقهى، فجاءت اللقطات التي تُعبر عن صناعة القهوة أو رواد المكان لقطات «سينمائية» مخصصة للانتقال من محور إلى التالي، في شكل مختلف عما يمكن أن يطرأ على ذهن البعض عند صناعة فيلم عن مقهى. والاعتناء بوجود خط درامي إنساني كان مصدر قوة في الفيلم ليبدو مقهى فرنسا أكثر قرباً من تاريخ المغني المغربي عبدالجليل كشطي، والذي لم يمر يوم في عمره دون أن يحتفظ لنفسه بمكان في المقهى العريق، والذي بناه الفرنسيون ليلتقوا فيه، فصار أهم مزار في مدينة مراكش، وبؤرة لتجمع الفنانين والمثقفين المغاربة وغير المغاربة. ولا بد من أن نذكر هنا أن الانتقال بين اللقطات الأرشيفية والمواد المصورة كان سلساً بسيطاً لا يكشف تشتتاً بل يصنع حالة من النوستالجيا. كما أن الانتقال من الحكي الشخصي إلى المقابلات التلفزيونية مع المثقفين والمؤرخين أتى بمثابة تعدد رؤى وكشف عن عمق مكانة المقهى لدى المغاربة. ولقد لعبت أسماء المدير أكثر من دور في صناعة الفيلم أدتها جميعاً بإجادة تُشير إلى مخرجة متميزة تُحدد مطالبها في العمل، من دون أن تنساق في استعراض للقطات الجمالية في شكل مجاني، ولم تنحز للتاريخ على حساب إبراز مكانة المقهى، بل بدت واعية تماماً للغرض من الفيلم، وكذلك لصُنع فيلم يبقى في الذاكرة، ولا يتوقف بعد الانتهاء من مشاهدته عبر حلقات مقاه عتيقة. وفي النهاية لا بد من التأكيد أن المشاهد لن يحتاج إلى أن يرى هذا الفيلم ضمن حلقات متسلسلة، بل يمكنه التعامل معه كفيلم مستقل لا يتبع القوالب الجاهزة لفيلم يندرج ضمن مجموعة ما يجعل الإشادة بصُناع الفيلم واجبة، وكذلك الإشادة بمسؤولي الحلقات الذين لم يضعوا قالباً ثابتاً وإنما تركوا مساحات من الإبداع لصناع كل حلقة، بما جعل كل حلقة فيلماً مستقلاً.
مشاركة :