اللغة عند كلِّ أمَّةٍ هي الأصواتُ التي يعبِّر الناسُ بها عن المعاني التي تجول في خواطرهم، فيعبِّرون بها عن تصوُّراتهم، مهما تنوَّعتْ، وعن كل أمرٍ تشتمل عليه نفوسُهم من الخواطر، وهذا معنى قولِ أبي الفتح عثمان بنِ جنِّي رحمه الله في كتابه الخصائص، حين عرَّف اللغة بقولٍ جامعٍ لماهيَّتها، أي بالحدِّ بقوله: (حَدُّ اللغة: أصواتٌ يُعبِّر بها كلُ قوم عن أغراضهم) فجميع المعاني التي تُكنُّها السرائر وتنطوي عليها الضمائر، إنما هي أفكارٌ تَنبضُ في النفوس، وعواطف تختلج في الصدور، ولابدَّ لهذه المعاني -إن أردنا إخراجَها وإبرازها للناس- من مَظهرٍ تتجلَّى فيه، أي إلى ألفاظ تدلُ عليها، وهذه الألفاظ أشبه ما تكون بالقوالب والأوعية التي تُصبُّ فيها المعاني، واللغة العربية لا تجاريها لغةٌ في صفاء ألفاظها ونقائها، ولا في جمال تراكيبها وبهائها، ولا في جودة ألفاظها، ومن المعلوم أن ظهورَ المعاني ووضوحَها لا يكتملُ إلا بجودة الألفاظ وصحَّة سبكها، لتُصيبَ المعنى وتنطبق عليه أتمَّ ما يكون التطابق، قال الإمامُ الشافعي رحمه الله في كتابه «الرسالة»: (ولسانُ العرب: أوسعُ الألسنة مذهباً، وأكثرُها ألفاظاً، ولا نعلمُهُ يحيط بجميع علمِهِ إنسانٌ غيرُ نبيّ، ولكنه لا يَذهب منه شيءٌ على عامَّتها) وقد أنزل الله كتابَه الكريم بهذه اللغة قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، قال الحافظُ ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وذلك أن لغةَ العرب أفصحُ اللغات، وأبينُها وأوسَعُها، وأكثرُها تأْديَةً للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أُنْزِلَ أشرفُ الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملئكة، وكان ذلك في أشرف البقاع الأرض، وابتَدَأ إنزالُه في أشرف شهور السَّنة وهو رمضان، فَكَمُلَ من كلِّ الوجوه) فَمِن بلاغة لغة العرب أنَّ كلمةَ «قعد» تدلُ على جانبِ من المعنى، لا تدلُ عليه كلمةُ «جلس»، وكلمةُ «جلس» تدلُ على جانبِ من المعنى، لا تدلُ عليه كلمةُ «مكث»، وكلمةُ «مكث» تدلُّ على جانبِ من المعنى، لا تدلُّ عليه كلمةُ «قعد» وهكذا كلمةُ «بَـقِـيَ» وكلمةُ «استقر» فكلُّ كلمة من هذه الكلمات المترادفة تدلُّ على معنى مختلف عن معنى الكلمة الأخرى، وهذه المغايرة هي التي تعطي اللغةَ العربية سَعةً وانفتاحاً، لتلبِّي المعاني التي لا تتناهى كثرةً، ثم إن ما تحويه لغة العرب من تفنُّنٍ في أساليبها،من التقديم والتأخير، وما فيها من ضوابط وقُيودٍ وحدود وروابط، ومن الحقيقة والمجاز، ومن الاستعارات والكنايات بأنواعها، ومن المحسِّنات والبديع الذي هو حُلا اللغةِ وحلاوَتُها، ومن كثرة حروف الجر والضمائر وأسماء الإشارة، ومن اشتقاقات الأسماء والأفعال، ومن كثرة التراكيب النحوية والصرفية، والإعراب الذي به تستبين المعاني، ويرتفع به الإبهام والإيهام، كلُّ ذلك يجعلها أقدرَ اللغات على التعبير عن المعاني مهما دقَّتْ، ويكون ذلك بأقلِّ عددٍ من الكلمات، فيحصل إدراك العقول للمعاني بِيُسْرٍ وسهولة، قال حافظ إبراهيم رحمه الله على لسان اللغة العربية: وَسِعْتُ كِتَابَ الله لَفْظَاً وغَايَةً وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بهِ وَعِظِاتِ فكيفَ أَضِيقُ اليومَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ وتنسيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ فكأني به رحمه الله يوجِّه كلامه إلينا، وقد رأى ركاكةَ أسلوبِ كثيرٍ من الكتَّاب اليوم، إنْ في الصُّحف، أو في المجلات، أو في مواقع الإنترنت، كأني به يرى عجز كثيرٍ من القرَّاء عن فهم بعض ما يُكتَب، بسبب ضَعف اللغة العربية عند الكاتب، ويعلمُ الله أني أبذل جهداً مضاعفاً في قراءتي لبعض المقالات، كي أتبيَّن المعنى الذي يَرمي إليه الكاتب، بعباراته المُوهِمة، وألفاظه الغريبة، وكلماته المحتملة، وتراكيبه المضطربة، وقل مثل ذلك في كتب علم الاجتماع وعلم النفس وعلوم التربية وغيرها، فكثيراً ما يجد القارئ أن للكلام عديداً من المعاني والدلالات، وربما فهمَ معنى لم يقصده الكاتب، وعليه فالمأمول من أساتذة الجامعات، ومن الكتاب، حين يكتبون، أن يتوخَّى الواحدُ منهم اللفظ الفصيح الصحيح، وعلينا تنشئة أولادنا على ذلك، فقد كانت العرب في الجاهلية كما قال شيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور: (يُلقِّنون أبناءَهم وبناتهم، ما هم في احتياجٍ إليه مِن المعارف، يُعِدُّونهم بها إلى الكمال المعروف عندهم، وكان أوَّلُ ذلك عندهم، التدريبُ على الفصاحة وإن كانت جِبِلَّةً فيهم، ولكنهم يَذُودون عن أبنائهم الخطأ، ويَعصمونهم مِن اللَّكْنَةِ والخَطَل) ويُرْوَى عن عبد الملك بن مروان أنه قال: (تعلموا العربية فإنها المروءةُ الظاهرة، وقلَّ مَن تَقدَّمَ في علمٍ من العلوم إلا بمعرفة الأدب، ومقاييس العربية والنحو) ومن بديع ما يُحكَى عن الخليفة العبَّاسيِّ محمدٍ المهدي أنه دعا أديباً ليجعله مؤدِّب اً لابنه هارون الرشيد، وكان الشأنُ في الخلفاء تهذيب أولادهم وتعليمهم، فحين جاء إليه سأله المهديُّ: كيف تأْمُرُ مِن السِّواك؟ فقال المؤدِّبُ: اسْتكْ يا أميرَ المؤمنين، فقال المهديُّ: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، ثم قال: التَمِسوا لَنا مَن هو أفهمُ مِن هذا الرَّجل، فقالوا له: ههنا أديبٌ مِن أهل الكوفة، يقال له عليُّ بن حمزة الكِسَائي، قدِمَ من البادية قريباً، فاستدعاه، وحين دخل عليه قال المهديُّ: يا عليُّ بن حمزة، كيف تأْمُرُ مِن السِّواك؟ فقال: سُكْ فاكَ يا أمير المؤمنين، فقال المهديُّ: (أحسنتَ وأصبتَ) ومما عِيبَ على المولَّدين من الشعراء قولُ أحدِهم: لَمَّا نظرتُ إلى كتابي ضمَمْتُهُ وقبَّلْتُهُ بالثَّغْرِ فَهْوَ حبيبي فقد فاتَ هذا الشاعرَ أنَّ الثَّغْرَ هو الأسنان، لا الشفتان، والمرءُ لا يُقبِّلُ الأشياءَ بأسنانه، وسُبُل تقوية الملَكة اللغوية لدى الشباب سهلةٌ جداً، ومن أيسرها أن يجعل الشابُّ والفتاة لهم ربع ساعةٍ في اليوم، يقرأ الواحدُ منهم عدداً معلوماً من صفحاتِ كتابٍ بليغ، على أنْ يكون هذا الكتاب مشكولاً، ليُقرأَ قراءةً صحيحة، مثل كتاب الكامل في الأدب للمبرِّد، يَقرأ منه صحيفتين أو ثلاث، بصوتٍ منخفض، يسمعه مَن بجواره، فسيجدُ أنه بعد شهر أو شهرين قد استقام لسانُه، وحَسُن مَنطقُه، وسَهُلَ عليه انتقاءُ الكلمات المناسبة للمعاني التي يريد التعبير عنها، وأختم بكلمةٍ بليغةٍ قالها أحد أئمة اللغة في عصرنا، مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، حيث قال في كتابه وحي القلم: (أما اللغة فهي صورةُ وجودِ الأمَّة، بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه؛ فهي قوميَّةُ الفِكْر، تَتَّحِدُ بها الأمَّةُ في صُوَر التفكير وأساليب أَخْذِ المعنى من المادة، والدِّقةُ في تركيب اللغة دليلٌ على دقَّةِ المَلَكَات في أهلها). ** ** - عضو سابق في هيئة كبار العلماء وأستاذ تعليم عال
مشاركة :