أصدر المخرج والكاتب الأمريكي داريوس ماردر نهاية العام 2019 فيلمًا مهمًا يصور تجربة الإنسان مع فقد أحد حواسه الرئيسة، تلك هي حاسة السمع.. عنوان الفيلم يحمل دلالة مهمة، لا في علاقتها بالحكاية وحسب، بل في طريقة صنع الفيلم اعتمادًا على فكرة أخذ المشاهد معه ليعيش التجربة الإنسانية المريرة، بصورة حية وصادمة.. ببساطة يجعلك الفيلم تعيش تجربة الفقد بنفسك، وتتقلب في حالاتها، بين الذهول والإحباط والألم وفقد المعنى والطموح والحب والأمل.(Sound of Metal - أو صوت المعدن)، هو عنوان الفيلم الدرامي الأمريكي الذي أتحدث عنه، كان من بطولة رضوان أحمد (Riz Ahmed) الممثل والموسيقي البريطاني الشاب، ذي الأصول الباكستانية.. ظهر أحمد في عدد من الأفلام الناجحة مؤخرًا مثل فيلم (Four Lions)، والفيلم الدرامي الجريمـ/إعلامي (Nightcrawler)، وفيلم الإثارة والحركة (Jason Bourne)، غير أن نجاح هذا الفيلم الأخير، كان تتويجًا لرضوان، وإعلانًا لنجوميته، ودخوله عالم الشهرة السينمائية باعتباره بطلاً رئيسًا، ديفيد فير الناقد الفني قال عن أدائه: «قد يكون الفيلم أفضل حفلة إعلان لدخول أحمد عالم النجومية».. شارك رضوانَ أحمد في فيلم (صوت المعدن) كلٌ من أوليفيا كوك وبول راسي.يحكي الفيلم تجربة مريرة لشاب موسيقي يدعى روبن (يؤدي دوره رضوان أحمد)، يفقد سمعه بطريقة مفاجئة، ليتوقف قطار حياته في لحظة معينة.. يعيش روبن حياة جامحة جدًا، حيث يعيش مع صديقته (لُو) في سيارة فان متنقلة بين المدن، ويقدمان فيها حفلات موسيقية مجنونة.. روبن مختص بآلات الإيقاع (عدة الطبل المكتملة: طبول، ومعدن، يضرب عليها بالأعواد)، ويظهر الفيلم كيف يعيش حالات الانتشاء الغريبة خلال الأداء في عالم متفلّت من قيود المسؤولية، حيث كل شيء مسموح مهما كان ضرره أو خطره.. وفجأة يبدأ روبن في فقد سمعه، ويكاد يصاب بالجنون، يقول له الأطباء: لا فائدة، ذهب سمعه تمامًا، وكل ما يمكن فعله لن يكون إلا مجرد محاولات باهظة جدًا لزرع سماعات وهمية تعيد له شعور السمع، لا السمع ذاته.. يضطر روبن للعيش في مجتمع الصم، ويذهب لفترة للعيش مع واحدة من جمعيات الصم التفاعلية، حيث الناس والمدارس وكل التفاصيل قائمة على عدم وجود الحاسة.يأخذك الفيلم إلى عمق تفاصيل هذه الحياة، يريك كيف يتحرك هذا العالم، وما هي مفردات إيقاعه الخاص، فالصوت.. الذي يعد للبشرية الدال في علامة الإيقاع مفقود في هذا العالم... لكنه عالم مطمئن، هادئ، وقنوع.. إن أجمل ما في هذا الجزء تلك القناعة التي يظهرها أفراد هذا المجتمع المناضل.. (في مشهد من المشاهد المؤثرة يلعب روبن مع أحد أطفال المدرسة في الحديقة.. يجلسان سويًا على (الزحليقة).. المعدن فيها يذكّره بأدوات الإيقاع.. يبدأ الطفل بقرع المعدن، يجاريه روبن (البطل)، ثم يستمر في تأدية وصلته الإيقاعية دون صوت.. هناك تناغم، وهناك إيقاع، وهناك مشاعر.. لكن دون صوت..!!لم يكتفِ روبن بهذه النتيجة، فقد كان طموحه كبيرًا بأن يزرع الجهاز، ويعود سمعه، ليعود للموسيقى والحفلات، ولصديقته التي هجرته.. يغامر، ويقوم بالعملية الصعبة، وتُزرع له أداة السمع، لكن النتيجة بعد ذلك تكون مخيبة جدًا.. ضوضاء لا علاقة لها بالصوت الحقيقي.. ضجيج ليس فيه أي معنى، ولا يحمل من جمال الأصوات الحقيقية أي شيء.. لعله بدأ حينها يفهم معنى القناعة التي شاهدها في مجتمع الصم.تلقى فيلم (صوت المعدن) إشادة كبيرة من النقاد، ومديحًا لأداء رضوان أحمد خصوصًا، كما خُصص جزء من المديح إلى تصميم الصوت في الفيلم، كان الصوت (أو اللاصوت) أحد أهم أبطال هذا العمل.. الجميل في الفيلم والمهم في الوقت ذاته، كما قلت سابقًا، أنه لا يعرض لك قصةً لتشاهدها، بل يأخذك معه لتعيش التجربة بكل تقلباتها، وسطَ الجنون والضجيج غير المحتمل يبدأ بك، فتقول: كيف لنفس بشرية أن تتحمل كل هذا؟ ثم فجأةً يذوب الضجيج.. صوت ضبابي مزعج، تسمع ولا تسمع، تشعر بالأشياء حولك ولا تشعر، يؤدي البطل أمامك صدمة الموقف وحيرته، وتشعر أنك هو يتخبط في أسئلته: ما هذا؟ ما الذي يحدث؟ أين أنا؟ وكيف أفقد أهم شيءٍ في حياتي؟ كيف يعيش موسيقي دون حاسة سمع؟ يؤديها البطل، وتسمعها تتردد في عقلك الفارغ من الأصوات.. ثم ذلك الطنين.. الطنين المزعج المستمر، ثم الصمت.. الصمت الممتد إلى الأبد..!!يقول أحد نقاد الفيلم: «دون محاولة إضفاء الطابع الرومانسي على مشكلة الصمم، يقدم فيلم (صوت المعدن) حالةَ قناعة وقبول لغير المتوقع.. ولحتمية التغيير».. فعلاً.. ذلك ما يفعله الفيلم بامتياز.
مشاركة :