التقارب السعودي- الروسي..رقم جديد في إدارة المنطقة

  • 9/5/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تشير أدبيات الدبلوماسية والسياسة الى ثمة ثوابت ومتغيرات في العلاقات بين الدول والمنظمات والهيئات العالمية، فليس هناك وتيرة دبلوماسية وسياسة دائمة في العلاقات بين الدول والمنظمات، فهذا العالم مشهود له بالتغير المستمر وعدم سكونه وارتباطه بعلم الاستاتيكا، وبالتالي لا يثبت على حال.. والأمثلة لا حصر لها، فما كان مألوفا أمس أًصبح اليوم غير مقبول وهكذا الحال في العلاقات بين الدول.. والمثل الشعبي دوام الحال من المحال يبرز في وقتنا الراهن، ولعل أبرز مثال له تدفق الدم في العلاقات السعودية الروسية بعد تجمد لسنوات طويلة مرت بها العلاقات بين البلدين بمراحل من التوافق والاختلاف، الى أن جاءت زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وزير الدفاع الى موسكو في لحظة تاريخية لتذيب الجليد في العلاقات بين موسكو والرياض وتدفعها للتوافق والتقارب في ملفات مهمة على المستويين الدولي والإقليمي. هذا التدفق في دماء العلاقات السعودية الروسية لا يعني التقارب التام أو الاختلاف التام في وجهات النظر في بعض الملفات، فهذا مستحيل أيضا في عالم الدبلوماسية والسياسة، ولكن عندما تقترب الرؤى في نقطة معينة تسمح مثلا بحل المشكلات العالقة، فهنا يكون التغير، أو ما يطلق عليه الشوامحلحلة الأمور أي تحركها وهجرانها مرحلة الثبات والسكون. الخلافات الشديدة كانت عنوانا كبيرا إذا حاولنا توصيف العلاقات الماضية بين الرياض وموسكو فترة ما قبل زيارة ولي العهد السعودي، فكان الدعم الروسي المتواصل للملف النووي الإيراني، ناهيك عن التأييد المطلق للنظام السوري، وكذلك البون الشاسع في مسألة أسعار النفط وتمسك روسيا بخفض الإنتاج للإبقاء علي الأسعار مرتفعة، مقابل موقف سعودي قوي برفع الإنتاج وخفض الإسعار.. فملف النفط يمثل واحدا من أهم الملفات التي تهتم بها السعودية وروسيا، فالمملكة بوصفها أكبر مصدر للنفط في منظمة الأوبك، والثانية بوصفها أكبر مصدر للنفط من خارج إطار المنظمة، خاصة وأن السوق العالمي للنفط يشهد تذبذبا في الأسعار وتغييرات واختلافات بين المصدرين أنفسهم وبينهم وبين المستوردين، ولهذا كان توصل الطرفين معا الى أي توافقٍ أمرا مهما له لتهدئة سوق النفط. وهكذا كانت الملفات تتسم دائما بالتباين والابتعاد في الرؤى، حتى جاءت المؤشرات الإيجابية من طرف موسكو وتحديدا ما يتعلق بقرار مجلس الأمن رقم 2216 الذي مررته روسيا بالامتناع عن التصويت، وهو القرار الخاص بالأوضاع في اليمن ودعم الشرعية وعاصفة الحزم، وكان هذا الموقف الروسي مؤشرا فعالا في دعم عمليات التحالف العربي في اليمن، كبادرة حقيقية من موسكو بتفهم طبيعة الأوضاع هناك وضرورة وضع حد للمآسي والحروب المنهكة التي تسبب فيها الحوثيون والمخلوع علي عبد الله صالح. وبالتالي يمكن القول أن الدعم الروسي للموقف العربي وتحديدا التحالف كان بداية مشجعة للتقارب في وجهات النظر، بما يمنح ثقة للحكومة الشرعية في اليمن التي تصر على تنفيذ بنود القرار وخروج ميليشيات الحوثي وأتباع المخلوع من المدن وعودة الشرعية. هذا الموقف الروسي المهم الذي جاء عشية زيارة وزير الدفاع السعودي لموسكو، تزامن مع تضارب الرؤي الغربية والأمريكية مع الاضطرابات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتحديدا الأزمات الحادة في سوريا واليمن والعراق وليبيا، فاضطراب مواقف مراكز القوى الكبرى في العالم الغرب وأمريكا - حيال أزمات المنطقة الساخنة، ربما جعل التقارب السعودي الروسي أمرا حيويا في الوقت الراهن، ويكفي الإشارة هنا الي المواقف الأمريكية المؤيدة لتوقيع الاتفاق النووي الإيراني رغم التدخلات الإيرانية السافرة في الأزمات العربية سلبا ودعما للإرهاب. ونأتي الي ملف آخر مهم وهم الملف السوري الذي يعد الأبرز في التوجهات الدبلوماسية لكلا البلدين، وإن لم يزل حتى الآن محل اختلاف رغم بعض التقاربات، فالمسعى السعودي هو دعم روسيا لصيغة سياسية توافقية دولية وإقليمية لا تتدخل فيها إيران، هدفها إنقاذ الدولة السورية والشعب السوري من نظام بشار الأسد بأسلحته الفتاكة الذي قتل مع الجماعات الإرهابية نحو ربع مليون مواطن سوري وشرد ما يقرب من عشرة ملايين شخص خارج بلادهم، على أن تضمن هذه الصيغة التوافقية أيضا القضاء على تلك الجماعات الإرهابية التى انتشرت في سوريا والعراق. فموقف السعودية هو التوصل الى حل سياسي يقصي نظام الإسد الفاسد القاتل والمجرم بحق شعبه، وكذلك عدم مشاركة الجماعات الإرهابية بأي شكلٍ من الأشكال، لأن ذلك ستكون له تبعات بالغة الضرر على مستقبل سوريا وشعبها. فداعش مثل النصرة، وهما في ذلك لا يختلفان عن كل جماعات العنف الإرهابية التي يتوحد خطابها الايديولوجي الداعي للقتل والعنف والقضاء على الأخضر واليابس واستغلال الدين الإسلامي للوصول الى مآربهم الخبيثة، فالإرهاب لا يتجزأ وإنما يتوحد في قتل الإبرياء والاستيلاء على الأراضي وامكانات الدول الاقتصادية وتدمير بنيتها الأساسية. اقتصاديا.. حدث اختراق كبير في العلاقات بين روسيا والسعودية بإعلان التوصل لست اتفاقيات استراتيجية بين الجانبين، أهمها بناء ستة عشر مفاعلا نوويا سلميا في السعودية سيكون لروسيا نصيب الأسد في بنائها وتشغيلها مع تفعيلٍ للجنة المشتركة للتعاون العسكري والتعاون في مجال الفضاء، وكذلك اتفاقيات أخرى تتعلق بالإسكان والطاقة والزراعة وتبادل الاستثمارات بين البلدين..والمعروف تاريخيا، أن التحالف الإستراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة منح الأخيرة توريد كافة النظم التسليحية للمملكة والاستحواذ كذلك على شركات النفط العاملة هناك، وبالتالي يكون التوجه السعودي الجديد حيال الشرق درسا لائقا لواشنطن ومعلما جديدا في العلاقات مع الرياض بأن ما كان ثابتا في الماضي أًصبح محل حركة في الوقت الراهن، ولن يبقى الحال كما كان عليه. وهو الأمر الذي أشار اليه وزير الخارجية السعودي بقوله إن حجم التبادل التجاري بين الطرفين لا يرقي لقيمة الدولتين، ليؤكد في نفس الوقت ضرورة العمل معا على مضاعفة أرقام التبادل التجاري. ويدفعنا ما سبق الى التأكيد على أن السعودية بدأت مرحلة الحراك لمغادرة خطوطها السياسية التقليدية، ففي وقت بدأت فيه الولايات المتحدة، وحلفاؤها الأوروبيون بمقاطعة روسيا اقتصاديا عقوبة لها على أحداث أوكرانيا، توجه الرياض بوصلتها نحو الشرق لتقرر تنشيط علاقاتها مع موسكو، وتوسيع تجارتها معها، وتوقيع اتفاقيات وصفقات في مجالات حيوية مثل الغاز والتقنية العسكرية والنووية. ولا عجب في هذا التحول الاستراتيجي الذي ربما يعد الأول من نوعه في تبني السعودية خطا مغايرا أو معاكسا للولايات المتحدة التي لم تبال بتحالفاتها الاستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي لتقرر الاقتراب من إيران عدوهم التقليدي على مدى عقود. ثمة رأي سعودي يقول أن التطورات الأخيرة لا تعني انقلابا سعوديا على مواقفها وتحالفاتها الاستراتيجية التاريخية، وإنما لا يجب قراءتها خارج إطرها السياسية والاقتصادية. ويعتقد هذا الرأي أن الرياض تريد الخروج من الزاوية الأمريكية الضيقة وتوسيع خياراتها.. فوجهت بوصلتها شطر روسيا باعتبارها قوة اقليمية واستراتيجية ومهمة أيضا، وكانت موسكو المحل الأنسب للرؤية السعودية الجديدة، فروسيا دائما لاعبا نشطا وتمثل رقما صعبا في قضايا المنطقة ولم تغادرها قط، هذا مقابل سياسة خارجية أمريكية حديثة سنتها إدارة الرئيس باراك أوباما تدعي تقليل الانخراط في أزمات المنطقة لتتبنى دبلوماسية معاكسة لدول الخليج وضعتها في موقف صعب، بدعمها بغداد رغم سياساتها الطائفية، وترك نظام الأسد في سوريا يرتكب أكبر مأساة في تاريخ المنطقة، وعدم تسليح المعارضة. اجمالا..تقودنا تلك التطورات المهمة الى التأكيد على نجاح زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز المرتقبة الي موسكو خلال فترة لاحقة من هذا العام، خاصة وأن الاختراق السياسي الذي أنجزته السعودية بتطوير علاقاتها مع روسيا منحها قوة وقدرة أكبر في التعامل مع أزمات المنطقة، وعلي رأسها مسألة الصراع مع الطموحات الإيرانية في التوسع والنفوذ، وربما لو اشترك أهل الخليج في استغلال ملفات الأقليات المضطهدة في إيران، لنجحوا في إشغال إيران بنفسها بعيدا عن نشر الاضطرابات والأزمات في الدول العربية.. وكنا قد أشرنا الى هذا الملف في موضوع سابق وتحفيز مطالب عرب إيران الأحواز وغيرهم من الأقليات لنيل حقوقهم المشروعة وعدم تهميشهم داخل إيران. هذا بالاضافة الي أن إحساس قادة دول الخليج ومن بينهم السعودية بانقلاب سياسة واشنطن والنتائج الخطيرة عليهم من تلك السياسة، جعلهم يفكرون في توسيع خياراتهم الخارجية، وتوزيع استثماراتهم السياسية شرقا وغربا..وقد امتلك الروس في وقتنا هذا حرية الحركة في المنطقة، لتشهد موسكو قريبا زيارة تاريخية للملك سلمان كما أشرنا وربما يعقبها مباشرة استقبال الرياض للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليدشن البلدان معا سياسة جديدة تقضي علي السكون والثبات في استراتيجيات الماضي، وليمثلا معا رقما مهما في معالجة أزمات المنطقة. كاتب ومحلل سياسي بحريني

مشاركة :