اختلاف الناس في العقيدة سنة من سنن الله الكونية، ولذلك قال - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 118: 120].ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يتعامل مع هذا الاختلاف بما يحقق الهدف من هذه الحياة، وهو إعمار الأرض، والتمسك بالقيم العليا المشتركة بين الناس، فإن الشرائع السماوية وإن اختلفت في العبادات الخاصة بها، إلا أنها أجمعت على مبادئ وقيم هي أساس التعايش بين الناس على اختلافهم، والتي منها على سبيل المثال: العدل والتسامح، ومراعاة حقوق الجار، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» [صحيح البخاري (4/167/3443)]، وقال أيضًا: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ" [صحيح البخاري (8/29/6120)].ومن هذه المبادئ أيضًا احترام الأديان، والمحافظة على دور العبادة، وهذا المبدأ قد أصَّله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول عمل للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وصوله المدينة هو بناء المسجد، الذي كان مركزًا لتصحيح المفاهيم الخاطئة، وبيان صحيح الدين من سقيمه.كذلك أيضًا حثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على حماية الكنائس، ففي عهده لأهل نجران النموذج الأمثل لذلك، فقد حمى - صلى الله عليه وسلم - كنائسهم وحذَّر من هدمها، حيث كتب إليهم فقال: "هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَجْرَانَ... وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَأَنْ لَا يُغَيِّرُوا مِمَّا كَانُوا عليه وَلَا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَلَا مِلَّتِهِمْ، وَلَا يغيّروا أسقف من أسقفيته وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا وَاقِهًا مِنْ وُقَيْهَاهُ، وكلما تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ دِنْيَةٌ وَلَا دَمُ جَاهِلِيَّةٍ وَلَا يُحْشَرُونَ وَلَا يُعْشَرُونَ وَلَا يَطَأُ أَرْضَهُمْ جَيْشٌ، وَمَنْ سَأَلَ فِيهِمْ حَقًّا فَبَيْنَهُمُ النِّصْفُ غَيْرَ ظَالِمِينَ وَلَا مَظْلُومِينَ بِنَجْرَانَ، وَمَنْ أَكَلَ رِبًا مِنْ ذِي قَبَلٍ فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ رَجُلٌ بِظُلْمِ آخَرَ، وَعَلَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ جِوَارُ اللهِ عَزَّ وجل وذمة مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ، مَا نَصَحُوا وَأَصْلَحُوا فِيمَا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُثْقَلِينَ بِظُلْمٍ" [دلائل النبوة للبيهقي 5/389].وانطلاقًا من هذه المبادئ وتحقيقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية التي منها المحافظة على الدين، وعدم الإكراه في العقيدة كما قال - تعالى -: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]جاءت «وثيقة الأخوة الإنسانية»، والتي تُعَدُّ من أهم الوثائق في بيان العلاقة بين الإسلام وغيره من الأديان، والتي أكَّد كل من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرنسيس بابا الفاتيكان على تحقيق هذه المبادئ التي تهدف إلى تحقيق السلام العالمي، وبناء مجتمع متماسك يقوم على أساس التسامح والمحبة، والتعايش، والاحترام المتبادل، فقد نصَّت الوثيقة على: "أنَّ حمايةَ دُورِ العبادةِ، من مَعابِدَ وكَنائِسَ ومَساجِدَ، واجبٌ تَكفُلُه كُلُّ الأديانِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ والمَوَاثيقِ والأعرافِ الدوليَّةِ، وكلُّ محاولةٍ للتعرُّضِ لِدُورِ العبادةِ، واستهدافِها بالاعتداءِ أو التفجيرِ أو التهديمِ، هي خُروجٌ صَرِيحٌ عن تعاليمِ الأديانِ، وانتهاكٌ واضحٌ للقوانينِ الدوليَّةِ".لذا فإن اليوم الرابع من فبراير لم يعد يومًا عاديًا، بل أصبح هو اليوم الذي يمثل ميلادًا جديدًا لتعزيز الأخوة الإنسانية؛ حيث انبثقت فيه هذه الوثيقة التي كانت نتيجة للمؤتمر الذي نظَّمه مجلس حكماء المسلمين في فبراير 2019م، والذي كان يهدف إلى تعزيز سُبُل التعايش المشترك، ودعم العلاقات الإنسانية بين بني البشر قاطبة على اختلاف طوائفهم.
مشاركة :