أصدر الكاتب العماني الخطاب المزروعي رواية بعنوان (ذاكرة الكورفيدا)، وكما نعرف جيدًا أن الكاتب يكتب النص القصصي القصير والقصير جدًا، وقد أبدع في الاثنين بقدرته على الإيجاز والتكثيف، وها نحن مع روايته القصيرة أيضًا، حيث يطالعنا منذ البداية وفي الجملة الأولى يبدأ معك النص في حالة استفزازية تفرض عليك التمسك بالنص، ومعرفة تفاصيل الجملة السردية المتمثلة في الحركة التي يقوم بها عثمان كلما كان خالي التفكير، أو مشحونًا بمجموعة من الأفكار، وهي العادة الحركية التي يؤديها كلما مر بجانب السور، هي وضع اليد على الأذن اليمنى وتحريكها، الأمر الذي يوقعه بعض الأحيان في إرباك، وبخاصة حين يفاجأ بالسؤال من قبل الآخرين، فـ«كثيرًا ما يضطر إلى اختلاق قصة في كل مرة، ما يجعله مرتبكًا وحانقًا» ص5، وهنا بقدر ما يدخلنا الكاتب في النص، فإنك تحاول استدعاء بعض معلومات من علم النفس، وعلاقة الحركة اللاإرادية، لكن هذه الحركة لم تكن مجرد حركة، أو يؤديها بشكل اعتباطي. ولكن هناك أسبابًا ودواعي فرضت عليه، إذ كانت الحركة بسبب الثقوب التي كانت في الأذن، فهي نتيجة وجود الدود الذي كان قد انتشر، وهو مستلقيًا على منامه، «والدود قد أكل من دماغك، بعد ما عبث في تجاديف أذنك» ص36، ولكن كل هذا، وإن شكل بعض ما يلامس الأذن وتعامل عثمان معها، فإن فقدان إذنه اليمنى هو الفيصل الذي جعله دائم التحسس، ووضع يده على المكان حيث الحرب التي دارت بين الإنكليز والسلطان من جهة، والثوار والحركات التي كانت قد حدث ربما في منطقة ظفار أو غيرها من المناطق العمانية، خاصة أن الحرب الدائرة بين الإنجليز والثوار آنذاك كانت مستمرة، الأمر الذي كانت الألغام مزروعة في مناطق المناوشات، ما أدى ذلك إلى انفجار أحد الألغام وقذف بسيارة الجيب بعيدًا، بل أدخلهم المستشفى لتقلي العلاج، وعثمان الذي طال بقاؤه في المستشفى صدم بحالته، إذ بترت أذنه اليمنى، وفقد القدرة على الإنجاب لو أراد الزواج، وعذا يعني أن الانفجار شكل حاجزا ماديًا بفقد عثمان الاذن وجهازه التناسلي، ومعنويًا الذي جعله فاقد الأمل ومنكبًا على بساط الحزن والألم والفجيعة التي لا يستطيع البوح بها، لكن ماذا عن الأم التي عرفت بحالته؟ فعندما اكتشفت «أمري وهي تضع المبولة بين فخذي، بقيت ليالي طوالاً أسمع نحيبها الذي كاد يفقدني عقلي.. كنت أشعر بعجزي حتى في مواساتها.. كيف أواسيها في مأساة تخصني أنا في الأصل؟!» ص39، من هنا ومن جل المعاناة لم يعد «يكترث لمن يشاهد بقايا الثقوب الثلاثة الموزعة حول صيوان أذنه» ص34.ولم يبرح النص الروائي مفارقة الماضي، وتراث الأجداد والآباء، وعلاقة الناس به والعيش بين أفضيته، هكذا هي أفراد المجتمع تعيش آنذاك على البساطة المتناهية في التعامل مع بعضها البعض من دون أي مساحيق اجتماعية، ولا إضافات التجميلية لتغطية النتوءات، بل كانت العلاقات صادقة بريئة، وقد تمثلت هنا في علاقة عثمان بمرزوق، وزيارتهما المتكررة التي شكلت صداقة متينة بينهما، وعلاق مرزوق بسيف بن علي التي بدأت وهما في السجن، ولكن لا شك أن الحياة بحلوها ومرها تكمن في الإنسان، وعليه معرفة التصرف، ليكون باقيًا على قيد الحياة مصارعا هذه العقبات ومعانقًا بعض ما تعطيه من سعادة، لكن هناك من البشر ما يفسد عليك الحياة ويكدر العيش، وهي بروز المشكلات منذ الصغر، إذ لم يعد شاعرًا بملذات الحياة التي تتبرعم عبر مراحل الحياة العمرية، وهذا ما بينته الرواية في تكوين كل من مرزوق وصديقه عثمان، فإذا كان عثمان فقد الأمل في الزواج بسبب عيب خلقي حدث له، فإن مرزوق مر بتجارب كثيرة منذ بعد أبيه عن العائلة ثم رجوعة ووفاته حتى مرض مرزوق الذي شارف على إنهاء حياته.ومن تلك الحوادث التي حصلت إلى مرزوق علاقته بالمرأة، إذ أحب عائشة ولم يستطع الزواج، وأحب أمه حبًا جمًا ولكنه فقده بسبب سلوك الأم غير السوي، وأخذته امرأة لتتسلى معه ولكنه رفض ذلك، هكذا يكشف لنا النص عبر سرديته ما كانت المرأة تقوم به، ولكن في الوقت نفسه ما يحل من ألم على الرجل فيما بعد، من هنا يقول مرزوق: «عندما تحب أو تكره تستطيع أن تفعل أشياء كثيرة، ليست بالضرورة جيدة، لكنك تستطيع أن تقوم بتلك الأفعال» ص16، هكذا كانت العلاقة بين مرزوق وعائشة التي بدأت حين رفع إناء الماء الثقيل مساعدًا إياها، ولكن قبل أن يستقر الإناء على رأس عائشة التصق دون قصد صدراهما لتفوح منهما رائحة الحب المتعطش، ومنذ تلك اللحظة بدأ الحب بينهما يتأجج ويكبر، لكن واقع الأمر لم يكن في صالحهما، حيث تقدم سعيد بن مبروك لخطبتها، والزواج منها، وهنا يقف مرزوق على دور المرأة العمانية التي استطاعت أن تحقق أحلام النساء في نيل بعض حقوقهن وبعض حريتهن، مما يؤكد مكانة المرأة آنذاك وحتى اليوم، فمنذ الليلة الأولى للزواج هربت عائشة لعدم قبولها هذا الزواج غير المتكافئ، والخالي من العاطفة والحب، ذلك الحب الذي أعطته إلى مرزوق، وحين أحضروها عند الوالي وخيرت بين الرجوع لزوجها، أو السجن، وقد فضلت السجن على ربط حينها برجل لا تحبه ولا تستطيع العيش معه، «استدعاها الوالي وخيرها بين أن ترجع إلى بيت زوجها، أو تدخل السجن، فاختارت السجن.. لقد كبرت يومئذ في روحي، زادت وريقات حبها في داخلي، ونمت كدالية عنب» ص21.وهذا الموقف من قبل المرأة، واستعدادها للمطالبة بحقوقها، أو تحررها من القيود الاجتماعية، قد ذكرتها سرديات روائية خليجية، مثل: رواية مزون لفوزية شويش السالم، ورواية الطواف حيث الجمر لبدرية الشحي، ورواية الباغ لبشرى خلفان، ورواية سيدات القمر لجوخة الحارثي، وغيرها من الأعمال الروائية أو الشعرية أو المسرحية، وإن كان كل عمل تناول مواقف ودور المرأة بشكل مختلف، إلا أن الجميع أشار إلى رغبات المرأة في التغيير والتحرر من موروثات المجتمع التي كانت تعيقها في حركتها بالمجتمع والحياة، ولكن في الوقت ذاته يمكنها تقديم التضحية في سبيل سعادة من تحب، فبعد ما تسوّر مرزوق سورالقلعة لمعرفة مكان عائشة وقع في قبضة الحرس، وخيرت عائشة بالعودة إلى زوجها أو محاكمة مرزوق وسجنه الذي قد يصل إلى ثلاث سنوات، مما فضلت عائشة تقدم نفسها ضحية لزوجها من أجل تخليص حبيبها من قبضة الحرّاس والمحاكمة والسجن، «حسنًا سأرجع إلى بيت زوجي، ولكن أود أن أراه يخرج أمامي من القلعة» ص24. غير أن بعض التصرفات قد تجر صاحبها إلى تدمير حياته الحاضرة والمستقبلية، حيث الانفعالات والأساليب غير المحسوبة، فبعد رجوع عائشة إلى زوجها لم يؤمن زوجها موقفها ورجوعها، بل كان في شك منه، وإنها ستكون على اتصال مع حبيبها، لذلك كان يراقبها ويراقب تصرفاتها، حتى أعد خطة أطاحت بهما، وجعلت مرزوقًا قابعًا في السجن لمدة ثلاث سنوات، «وجدت نفسي في السجن المركزي، محكومًا علي ثلاث سنوات» ص27، كما أوضح ذلك بتلك المرأة التي طلبت من مرزوق ركوب سيارتها وأخذه إلى بيتها، ولكن حين وصلت إلى البيت وقبل أن تبدأ المرأة في علاقة جسدية معه طلبت منه مشاركتها شوب كأس من الخمر، ولرفضه تغيرت أحوالها، بمعنى أن التحرر إذا لم يكن مسئولاً يأتي بنتائج عكسية على المرء والآخرين، أما سعيد بن مبروك فلم بترك مرزوق في حاله، فقد أحاك كل شيء ليجعله في قعر المأساة والخسارة والفقد، وأصعبها في حياته، وذلك حينا رآه في غرفة أبيه مع أمه «رأيت الجرد سعيد بن مبروك يخرج من غرفة والده» ص76.تميزت الرواية بالأسلوب الحواري طوال الرواية، وما عدا ذلك من وصف أو سرد فهو قليل قياسًا بتقنية الحوار الذي أخذ على عاتقه بعض السرد والوصف بدل أن تكون التقنيتان منفردتان في النص، بل أعتقد أن الكاتب الخطاب المزروعي نجح في إيصال الكثير من القضايا إلى القارئ في كلمات قليلة وفي اختصار السردية الروائية التي يذهب إليها بعض الروائيين ويجعلون نصوصهم كبيرة الحجم مملوءة بالحشو والزيادة التي لو حذفت من هذه النصوص لما تأثرت. وكلما وضعك بين النص والسؤال يجعلك تبحث بين ثنايا الكلام عن إجابات، وما حديث مرزوق وهو داخل السجن وتعرفه على سيف بن علي، ثم دراسته بالانتساب، دخوله دورة في فن التصوير الضوئي إلى بعض إجابات عن تساؤلاتنا فيما يتعلق بالعنوان وعلاقته بالنص، وعن علاقة مرزوق بالطير الذي جعل عنده ارتباطًا شرطيًا بين الوقت وأكل الديدان، ومدى الحب الذي يغمره الإنسان لمن يحب من الكائنات.تشير الرواية إلى ما تتصف به عمان من الأفلاج والمياه العذبة التي ذكرت في العديد من أدبيات عمان السردية والشعرية والتاريخية وغيرها، هذه الأفلاج التي تمثل جزءًا من التراث العماني الذي يؤكد وفرة المياه العذبة، وخصوبة الأرض وكثرة الزراعة، وفي الطرف الآخر التأكيد على العلاقة المتينة بين الإنسان العماني وهذه الأفلاج، وهو ما بينه الراوي في انزال عثمان رجليه ليبللهما بالماء البارد ويجعله في حالة انتشاء، ثم إسباغ الوضوء لأداء الصلاة «قبل أن ينهي الركعة الأخيرة تناهى إليه صوت أمه يخرج من بين النخيل» ص6. بل ما يلفت الانتباه أن الادب العماني عامة، والسردي بشكل خاص، يحاول توثيق مراحل تاريخية وسياسية واجتماعية فيشكل سردي يقرب الصور المختلفة للقارئ، وقد تناولت الرواية بين سرديتها العفو العام الذي شكل منعطفًا مهمًا في تاريخ عمان الحديث، العفو العام الذي أعلنه السلطان قابوس رحمه الله لبدء مرحلة جديدة من التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وقد نجح في هذه الخطوة ليس على المستوى المحلي، بل على المستوى الإقليمي والعربي والعالمي. هذه المرحلة التي سيكون بناؤها بالسواعد العمانية الصادقة المخلصة، وهنا يقول مرزوق عن السيد سيف بن علي الذي كان مناضلاً، ودخوله السجن، ثم خروجه بعد العفو العام: «سيف بن علي مناضل من نوع فريد، خرج قبلي من السجن بعد أن جاءه العفو» ص42، وفي الوقت نفسه ساعد مرزوقًا ليكون متوازنًا مع نفسه، فيقول عنه: «سيف بن علي رفعني من تحت إبطي، ودفعني نحو الحياة، لأتجاوز كل عثراتي السابقة» ص60.
مشاركة :